الملحق الثقافي:محمد الحفري*
انقسمت صفحات رواية «المنخورة»، لمؤلفها المرحوم «عبد الإله الرحيل» بين امرأتين.. الأولى غائمة ومشوّشة، هي صبوحة الخليل، والثانية ناضجة وواضحة هي منيرة.. الأولى يسهر معها «قاسم المدهون» مالك كلّ شيءٍ في «المنخورة»، وهي غير واضحة المعالم لديه، تختلط صورها مع كؤوس الخمر التي تدير رأسه: «ها هو ينتهي من كأسه الثالثة، تتراءى له صبوحة الخليل، واقفة على غصنِ الكرمة التي تطاولت في باحة داره، وربما تكون تلك المرّة الأولى التي يتساءل فيها جديّاً، لماذا لا يتزوج من صبوحة الخليل ص40»…
أما الثانية منيرة، فهي كما يقول عنها الكاتب نفسه: «منيرة فجر المنخورة.. ذلك الشفق الجميل، الذي يتراءى له بعد أن تنحدر الشمس وراء الجبل ص50».
كانت منيرة قد عرضت على حبيبها الهرب من القرية والعيش خارجها، رغم كونها امرأة تعيش في مجتمع ريفيّ مغلق، ورغم كون الهرب ليس حلّاً، لكنها تبدو الأشجع في عالم المنخورة الصغير، الذي يستبد به قاسم المدهون، وحبيبها يرفض ذلك محتجّاً بقوله: «لا نريد أن نموت رخيصين ص51».
نستعرض هنا، كلمات من قصة «الوردة والمختبر» لـ»ابراهيم علوش» حيث يقول: «من أراد أن يبني بيتاً عليه أن يبعد الأحلام عن رأسه، ويلبس الرسن الفولاذي الرقيق في فمه، ويجري إلى الأمام، إلى اليمين، إلى الشمال، إلى كلّ الاتجاهات التي يشاءها ماسك الرسن الذي يجلس في العربة».. نسأل بعد ذلك: هل كان حبيب منيرة من النوع الذي يفضّل الرسن على حرّيته وتمرّده على واقعٍ اجتماعيّ سيء؟.. وإذا كان كذلك، فأين هو الحبّ الذي يقول عنه «يوسف زيدان»: «إعصارٌ كامنٌ في زاويةٍ بعيدة من أعماق القلب، وهو يتوق دوماً لاجتياح كلّ ما يعترض طريقه»، فقد كانت حبيبته منيرة، تحرّضه على فعلِ شيء، ويبقى عاجزاً مكتوف اليدين، ونراه يتساءل: «من أين يأتي هذا العجز الذي يلفّ كيانه، ويكاد يغيّب صوته؟»، ويجيئه صوت منيرة المتمردة على تصرفات أبيها، والمتطلّعة إلى خلق عالمٍ أكثر نقاءً.
على الجانب الآخر، جانب صبوحة الخليل، التي بقيت على صفحاتٍ عديدة، مجرّد صورة جامدة لا حياة فيها ولا حركة، ولا نراها إلا من خلال الكؤوس التي يحتسيها المدهون، الثريّ بالوراثة عن أبيه: «يرفع الكأس باتجاه الشمس، تتراءى صبوحة الخليل كومضة البرق.. تعبر به إلى عوالمٍ غامضة، على أجنحةِ لياليه السرّية ص53».
إن تكرار صورة صبوحة بهذا الشكل، يصبح مملاً وغير مقبول، إذ لم تقدم لنا أشياء جديدة، لنفهم ماهيّة العمل أو النص، ولعلّه يطابق قول المثل الروسي: «الضرب على الجبين، كالضرب في الجبين».. لكن، ما يبرر تكرار صورتها، تقديمها لقاسم المدهون، هذا النوع من الرجال الذين يدّعون نهاراً العفة والالتزام والدين، وفي الليل تظهر حقيقتهم.. الحقيقة التي أشارت صبوحة إليها، عندما كشفت ما يرتكبه المدهون من فسادٍ وجرائم في المنخورة.
ضمن هذا الزمن الذي تحدثنا عنه، يغدو الواقع مريراً، يجعل الإنسان ينكفئ على ذاته، ويكتفي بالأحلام، لأنه لا يستطيع فعل شيء غيرها، وهكذا يغدو الواقع حلماً لا يمكن الوصول إليه، فما أصعب ذلك وما أمرّه، في بلدانٍ تتشابه كثيراً مع المنخورة، على أن الفرق شاسع بين الحياة والفن، والإشكال الفطريّ، وكما تقول «غادة اليوسف»: «يحوِّل الفنّ الحياة، إلى غرضٍ أدبي؟».. وفي هذا الزمن، أو ذاك، ومن بين صخوره القاسية، تخرج لنا منيرة كشعاعٍ على وشكِ الانطفاء، ونسمعها تخاطب حبيبها «غالب»: «القهر يلفّني لأنني أرى عجز الآخرين، خوفاً وتصفيقاً وتطبيلاً وغناءً وهم كاذبون، القهر يلفني لأنني أعرف أنهم منافقون ص 193»..
تُرغم منيرة على الزواج بـ «هذال الحسن»، الذي غدا زعيم عصابةٍ عند قاسم المدهون، مالك المنخورة ومن عليها، وها هي، وأمام الجمع الجبان في يوم زفافها، تقول: «هذا عرسي أيها الناس، ومن حقّي أن أفرح، هذا عرسي ومن حقّي أن أرقص بخنجر عريسي ص194»، وبعد أن تأخذ الخنجر من «هذال»، تطلب من حبيبها الذي حُرمت منه، أن يحملها، وعندما فعل، وبعد أن أعادها إلى الأرض، نظرت باتجاه «هذال» ونحو أبيها اللذين كانا يراقبانها بدهشة، وقالت: «كلّ شيء إلا القلب يا هذال الحسن.. كلّ شيءٍ إلا القلب يا أبي».. قالت هذا واستلت الخنجر من غمده، ثمّ صرخت بالنبرة نفسها: «لن أكون لك يا هذال»..
ردّد الليل صدى كلماتها، في الوقت الذي غرست فيه الخنجر في بطنها بكلتا يديها.. غرسته في أحشائها، وهوت على الأرض، وقبل أن يتقدّم غالب منها، كانت عدّة طلقات قد اخترقت رأسه، من مسدس «هذال»….
كانت «منيرة» في تلك اللحظات، تشبه «هلال» بطلة «باولو كويللو» حيث قالت لحبيبها: «سأظلّ على حبّي لك إلى الأبد، لا قلب لي، لا روح ولا جسد، الحبّ هو كلّ ما أملك، تظنّني موجودة، لكنه مجرّد خداعٌ بصريّ، ما تراه هو الحبّ بأطهرِ حالاته، يتوق إلى أن يتجلى، لكن ما من زمانٍ أو مكان، يمكن أن يتجلى فيهما».
إذاً، كان أمامنا في هذا النصّ، صورتان لامرأتين، إحداهما بقيت ثابتة وجامدة، ولم تتحرك إلا قليلاً، أما الأخرى، فقد كان أقصى ما تستطيع القيام به، هو قتل نفسها، أو لنقل بأن ذلك كان هرماً لتحرّكها، ولعلّ أول ما يتبادر إلى الأذهان، ونحن نقارن بين الإمرأتين، سؤال مفاده: «هل أراد الكاتب «الرحيل» أن يقول لنا، أن أبطال الرواية وغيرهم، ممن لا يرتضون الذل والمهانة، هم من يغادر هذه الحياة باكراً، غير آسفين على شيء، وبأن الحياة حقاً هي للجبناء فقط؟»..
يقول «لونفلو»: «تعزّى أيها القلب الكئيب، وكفّ عن الشكوى، فوراء الغيوم لا تزال شمس مشرقة»، وفي رواية «المنخورة» وكما بدا لنا، أن الكاتب قصد ذلك النمط من السرد، الذي يقابل بين صورتين بعدسةٍ واحدة، بهدف خلق مفارقةٍ سرديّة، عاد لرتقها ومحاولة ترميمها مراراً، ليعطي نصّه فنيّة، ربما يكون قد تقصّدها، وعلى الرغم من حرفيّة المؤلف في كتابة هذا الجنس الأدبيّ، فإننا نرجّح بأنه، قد انتهى من كتابته بداية، من دون نساء، لكنه عاد واستدرك الأمر، فوفّق من وجهة نظرنا في واحدة، وهي منيرة، وأخفق في الأخرى، وهي «صبوحة الخليل».
ارتقى ونهض بالأولى، لتلامس الغيم والسحاب، ولترتفع بعدها إلى السماء، وجعل الأخرى في الأسفل، يابسة متخشّبة، من دون أي فعل، وهو محقٌّ في كلا الأمرين، فلكلّ واحدةٍ من هاتين الإمرأتين، ظرفها التي عاشت به…
في النهاية نقول: البناء بناؤهُ وملكه، وله فيه حرّية التصرف، ولعلّ «النصّ الأدبيّ الجيد، المنبثق من بؤرة الوجدان، يخلق وعلى رأي «أدونيس»، «رعشات وجدانية صادقة وحميمية»، وإذا كانت الكتابة الإبداعيّة مهمة، فلأنها «التأسيس لممكنات تحرير الإنسان، وبناء الحياة الكريمة، وعمل الكاتب في هذا الإطار، هو مجابهة المجرى البائس للأشياء، ومقاومة الخضوع البائس لهذا المجرى»….
* روائي وقاص ومسرحي
التاريخ: الثلاثاء27-7-2021
رقم العدد :1056