الملحق الثقافي:وجيه حسن:
هذا العلوان، أو هذا العنوان، ليس منْ نسجِ خيالي، أو من إبداعاتِ عقلي، إنّما هو للروائيّ الكبير المرحوم “عبد الرحمن منيف”، مؤلّف خماسيّة “مدن الملح”.. صاحب الروايات المهمّة، وفارس القلم الرّشيق، والرّؤى المُعمّقة، في كثرةٍ كثيرةٍ من قضايانا العربية، ومن حياتنا الاجتماعية المعاصرة؛ فهو يقول في معرضِ كلامه عنْ هذا الفنّ الجميل المُستحَبّ: “فنّ الرواية”، في عالمنا العربي:
“الرواية، كما أفهمُها، وكما أكتبُها، وكما أرْوِيها، أداة جميلة للمعرفة والمتعة بآنٍ معاً”!.. وفي اليقين، واعتماداً على ما وردَ، فإنّ الرواية، تطمح بأن تكون سجلّاً ومرآة، يرى فيهما الجميع أسماءهم وصورهم وحكاياتهم؛ والرواية بعامّة، هي المرآة التي يرى فيها العرب أنفسهم، وهي بالوقت عينه سجلّهم، سجلّ الأفكار والآراء والأحلام وضباب الأمل والرّجاء!.. وفي كتابه القيّم، “الكاتب والمنفَى”، يقول “منيف”، بِسِياق حديثه عن قيمةِ الرواية، وأهميّتها القصوى، في تحريكِ ذهن المتلقّي، ووضعه بإطار تفكيرٍ مُعمَّق، مبيّناً هُويّة الرواية الحقيقية:
“ينبغي أن يكون مُحرّكاً للرواية: الصّدق والجرأة: الصّدق في القول، والجرأة في التّعامل مع الحقائق والأساليب”! وعلينا أنْ نقرّ، أنّ عدداً كبيراً ومتزايداً من الروايات العربية، مُنطَلِقٌ من البيئة، يحمل هموم إنسان هذه المرحلة، وأحلامه الرّغيدات، ويحرّض أنبلَ وأشجعَ ما في هذا الإنسان، ويضاعفُ معرفته بكلّ ما حوله، يفعل ذلك بطريقةٍ جادّة ومسؤولة وجديدة أيضاً.. يقول “منيف” بهذا الصّدد: “وهذا النّوع من الروايات يلاقي اهتماماً كبيراً من القرّاء، ويحظى باحترام الدّارسين الأجانب، بخاصّة الذين يريدون بصدقٍ معرفة هموم شعبنا، وطموحاته”، “الكاتب والمنفى”، (ص 46)..
وما دامت الرواية بنظر “منيف” مرآة ساطعة، وسجلّاً حافلاً، فهي إذن تذهب بعيداً في ثنايا المجتمع، وتعرض بشكلٍ جميل ومُتقَن، حياة الآلاف بل الملايين، تفصح عنْ حالاتهم وظروفهم، تحرّض على رفض الواقع المَعِيش، تتمرّد عليه، فهي بِأسِّها وطبيعتها، تتوجّه أوّلاً إلى عقل القارئ، تخاطبه، تعرض أمامه جملة من الوقائع الصّارخة، والحقائق الدّامغة، الأمر الذي يستدعي من المتلقّي/ القارئ المُسْتأنِي موقفاً، وردّ فعل، واستجابةً ما.. ويبيّن لنا “منيف” أنّ الرواية – حسب رؤيته لها:
1- أداة معرفة، لكنّها المعرفة الجميلة، إذا صحّ التعبير.. ويصحّ!.
2- الرواية تخاطب العقل والوجدان معاً.
3- تتوجّه إلى الإنسان، بكلّ تواضعٍ، لكي تعلّمه وتحرّضه..
4- أهمية الرواية، أنها مفتوحة ومتواصلة مع الأدوات الأخرى، خاصّة وأنّها أداة بسيطة، عكس السينما والمسرح، من حيث إمكانية الانتقال والوصول.. “الكاتب والمنفى”، “ص41”!
ويقول في موضعٍ آخر، متحدّثاً عن هُويّة الرواية، ومُعطاها: “الرواية تنمو وتزدهر، حين تعمّ المأساة، ويزيد الظلم، ويقوَى التناقض، في تلك اللحظات التاريخية الهامّة، تصبح الرواية لسانَ الناس، والمرآة التي يرون فيها أنفسهم، وقد يُدهَشُون، أنَّ حالتَهم قد وصلت إلى هذه الدّرجة من السّوء”.. “الكاتب والمنفى”، ص 40..
إنّ الرواية بطبيعتها، استكشافٌ ومغامرة في أرضٍ بِكر، ومحاولة إدراك وفهْم للتحوّلات التاريخية، ومن الواقع الاجتماعي: كحاضرٍ وماضٍ واحتمالات، كتاريخٍ، ينبثق العمل الروائي، ينبثق الحدث!.. وتظلّ الرواية تجري كالنّهر، تتفرّع عنه فروع شتّى، وتصبّ فيه فروع من أنهارٍ أخرى…
هنا علينا أنْ نقرّ، أنّ الروائي صاحب العين الثاقبة، قارئ تاريخ حقبته، يستطيع تخليق الأحداث والشخصيات، ويعيد تركيب الأمكنة، ورَصْف الأزْمنة، بحيث يصبح بإمكان القرّاء/ المُتلقّين، أنْ يستعيدوا معه اللحظات الغاربة، والوجوه الغائبة، التي لم يسجّل ملامحَها أحدٌ غير الروائيين، الذين تحيا شخصياتهم مثلها مثل الشخصيات الواقعية، التي حفرت لها مكاناً في كتب التاريخ، وحياة المجتمع.. و”نجيب محفوظ” – مُتصوّف الرّواية الحقيقي، كما يصفه الرّوائي “منيف” – بالنسبة إلى مَنْ يكتب تاريخ مصر، أهمُّ من المادة المُسجّلة، والسّرد التاريخي، الذي نعثر عليه في الصحافة، وكتب التاريخ.. كذلك “غسان كنفاني” هو أكثرُ إفادةً لِمَنْ يحاول أنْ يكتب تاريخ فلسطين من العديد من المؤرّخين وكتّاب الوقائع.. ويشترك معه في هذا، الكاتب الروائي “د. حسن حميد”، في روايتيه الجميلتين المُونِقتَين: “مدينة الله”، و “كنت هناك”، والرواية الأخيرة، فازت بـ “جائزة حنّا مينة للرواية”، للعام 2017، التي نظّمتها “الهيئة العامّة السورية للكتاب”، التي تتبع لوزارة الثقافة..
من هنا ينبغي القول: تبدو الرواية في هذه الحقبة من تاريخ البشرية، الشكلَ الإبداعيّ الأكثر حضوراً، الأكثر مقروئيّة وانتشاراً، الأهمّ من ذلك كلّه: أنّ النوع الرّوائي يختصر أشكالاً وفنوناً عديدة.. وبتعبيرِ عالم الجَمال الروسي “ميخائيل باختين”، (وهو أكبر مُنظّر للنّوع الروائي في القرن العشرين)، عن فنّ الرواية، يقول: “إنّه النّوع الذي يرفض الاكتمال، ويصرّ على التطوّر”..
أخيراً، فإنّنا لا نزال نشهد – في السنوات الأخيرة – صعوداً لموجةٍ شابّةٍ من كتّاب الرواية، تعيد النظر فيما استقرّ في تضاعيف الشّكل الروائي من علامات وصُوى تدلّ عليه، وتؤسّس لِصِيغ تشكُّله، الرّوائي: “صفوان إبراهيم” تمثيلاً، صاحب الرواية الموسومة بـ “وصايا من مستشفى المجانين”، التي فازت كذلك بمسابقة “جائزة حنّا مينه للرواية”، للعام 2017، وتمّت طباعتها العام 2018… وكذلك رواية الكاتب “مازن أيمن النفوري”، وعنوانها: “الشيخ والفول”، التي فازت كذلك بـ “جائزة حنّا مينه للرواية”، العام 2019 ..
التاريخ: الثلاثاء3-8-2021
رقم العدد :1057