و لـ «زينون السوريّ».. جمهوريّةٌ رواقيّةٌ مثاليّة

 

الملحق الثقافي:أمجد سيجري:

تعتبر الفلسفة الرواقية، مذهباً يقوم على نظامٍ فلسفيٍّ متطور، يغطّي عدة مجالات، تتضمّنها ثلاثة فروع رئيسيّة هي، المنطق والفيزياء والأخلاق، وتقوم عليها مجموعة معتقداتٍ أهمها، أن الكون هو كائنٌ إلهيّ، تتخلّلهُ روح كونيّة، وأن دورنا على الأرض هو قبول الطبيعة والعيش وفقاً لما هي عليه.. تقوم أيضاً، على القدريّة، أيّ أن علينا قبول مصائرنا بلا تذمّر، لأنها تجسيدٌ لإرادةِ الكون، ولهذا السبب أصبح اسمها مرادفاً، للصّبرِ والتحمّل.
كما تعتبر الرواقية «كوزموبوليتانيا» أي بحسبِ الرواقيين، كلّ الناس ينتمون إلى مجتمعٍ واحد، على أساس الأخلاق المشتركة، وكلّ إنسان في هذا العالم «كزموبوليتاني» أي «مواطن عالمي»، والناس هم تجلّيات لروحٍ كونيّة واحدة، ويجب أن يعيشوا فيما بينهم، بحبٍّ أخويّ، وأن يساعدوا بعضهم البعض.
أسّس هذا المذهب، الفيلسوف الفينيقيّ «زينون السوري»، الذي ولدَ سنة 334 قبل الميلاد، في مستعمرة «كيتون» الفينيقية، في جزيرة قبرص.
أما عن حياته، فمعظم تفاصيلها جاءت إلينا عن طريق الفيلسوف الإغريقي «ديوجانس اللايرتي»، القرن الثالث الميلادي، في كتابه «سير وآراء الفلاسفة البارزين»، وتمّ تأكيد القليل منها، من خلال موسوعة «سودا» البيزنطية، التي تعود إلى القرن العاشر ميلادي .
بيّن «ديوجانس» أن اهتمام «زينون» بالفلسفة، بدأ عندما استشار الكاهنة الكبرى لـ «معبد أبولو» في دلفي، لمعرفة ما يجب أن يفعله لتحقيق حياة أفضل، فكان جوابها، بأن يتّخذ مظهر الموتى، ففسّر كلامها بأن عليه دراسة مدونّات الفلاسفة، وغيرهم من المؤلّفين القدماء .

كان «زينون» تاجراً ثريّاً، وفي أحد الأيام تحطّمت سفينته التي كانت تنقل الصباغ الأرجواني، من فينيقيا إلى مدينة «بيرايوس» اليونانية، فصعد إلى «أثينا» وزار بائع كتب في الثلاثين من عمره، كان يقرأ مذكرات «زينوفون»، وقد سُرَّ «زينون» بالكتاب، وبتصويرات «سقراط»، حتى أنه سأل البائع، عن إمكانيّة العثور على رجلٍ مثل «سقراط»، وفي نفس اللحظة، مرَّ بجواره الفيلسوف «أقراطيس الطيبي»، أحد أشهر معلميّ «الفلسفة الكلبيّة – التشاؤمية»، التي أسّسها أحد تلاميذ «سقراط» وهو «أنتيسِتنيس» في القرن الرابع قبل الميلاد، وترى أن الفضيلة وليس المتعة، هي الهدف الأساسي للحياة، وأنها تمثّل السعادة الحقيقيّة، وبالتالي فمجاراة الطبيعة وعدم المبالاة بالعرف، سيقود الإنسان نحوها.. هنا، أشار بائع الكتب لـ «زينون»، بأن «أقراطيس» هو الشخص الذي يبحث عنه، ومنذ ذلك اليوم أصبح «زينون» تلميذاً لـ «أقراطيس»، فدرس الفلسفة الكلبيّة، وإلى جانبها «الفلسفة الميغارية» التي تعود لأحد تلاميذ «سقراط».. «أوكليديوس الميغاري» الذي استمدّ تعاليمها الأخلاقية من أستاذه، وهي فلسفة تعترف بوجود مصدر خيرٍ واحد، وقد تأثر أيضاً، بـ «ستيلفون» الذي كان مهتماً بالمنطق والجدل، واعتبر بأن ما هو كونيّ، منفصل بشكلٍ أساسيّ، ومستقل عن الإنسان والمادة.. ويقال أنه قد درس الأفلاطونية، على يد الفيلسوف «زينوقراطيس الخلقيدوني».
بدأ «زينون» التدريس في «سْتوَّى بويكيلي»، أي «رواق الشرفة»، في القسم الشمالي من «أجورا» أثينا، وذلك سنة 301 قبل الميلاد. في البداية كان يطلق على تلاميذه اسم «الزينونيون»، ثمّ أصبحوا يُعرفون باسم «الستويون» أو «الرواقيون»، وهو الاسم الذي كان يُطلق سابقاً، على الشعراء الذين تجمّعوا في ذلك الرواق .
كان الملك المقدوني «أنتيغونوس الثاني غوناتاس»، من أشدّ المعجبين بـ «زينون»، وكلما جاء إلى أثينا يزوره، حتى أن بعض المراسلات التي نقلها «ديوجانس» عن «أبولونيوس»، تُظهر بالصور أن «زينون» رفض دعوات الملك المتكررة لزيارته في مقدونيا، مبرّراً اعتذاره بكبرِ سنّه، فقد كان يومها في الثمانين، وقد أرسل تلاميذه «برسيوس» و»فيلون» بدلاً عنه .
يُقال أن «زينون» رفض الجنسيّة الأثينية، عندما عُرضت عليه، كي لا يبدو غير مخلصٍ لأرضه الأم «فينيقية».. ولشدّة احترام الناس له، نُقش اسمه على عمودٍ سُمّي باسمه «زينون الفيلسوف».
كرّمه أهل أثينا، ووضعوا مفاتيح أسوارِ المدينة معه، وقلّدوه تاجاً ذهبيّاً، وتمثالاً من البرونز، وكان أهله في «كيتون» و»صيدا» فخورين به .
قسّم «زينون» الفلسفة، إلى ثلاثةِ أجزاءٍ:
1- المنطق الذي يتضمن، كلّاً من البلاغة والقواعد والإدراك والتفكير .
2- الفيزياء التي تضمّ العلم، إلى جانب الطبيعة الإلهيّة للكون .
3- الأخلاق التي كانت، الهدف النهائيّ لتحقيق الحياة الجيدة .
في الحقيقة، لا يمكن تحديد أفكار «زينون» بالمطلق، فقد تمّ تطويرها من قبل «خريسبوس صولي» وغيره من الرواقيين، في مراحل لاحقة.. لكن، يمكن أن نحدّد آرائه العامة، على الشكل التالي:
القسم الأول من فلسفته، وكما أسلفنا، هو المنطق، وقد تأثّر في معالجته بـ»ستيلفوس» وغيره من «الميغاريين»، حيث حثّ على ضرورة وضع أساس للمنطق، معتبراً بأن على الحكيم، معرفة كيف يتجنّب الخداع..
أيضاً، قسّم المفاهيم الحقيقية، إلى المفهوم وغير المفهوم، وبشكلٍ يمنح الإرادة الحرّة بقوّة القبول والرفض، والتمييز بين انطباعاتِ الحسّ، قائلاً بأن هناك أربع مراحلٍ تؤدي إلى المعرفة الحقيقية، وقد أوضحها بمثالِ اليد المسطّحة والممدودة، التي يتمّ إغلاق قبضتها تدريجيّاً..
مدّ أصابعه، وأظهر راحة يده وقال: «الإدراك».. شيءٌ من هذا القبيل»، ثمّ أغلق أصابعه قليلاً وقال: «الموافقة هكذا».. بعد ذلك، وعندما أغلق يده تماماً، وأظهر قبضته، قال: «هنا الفهم»، وقد أطلق عليه اسماً جديداً هو «كاتاليبسيس».. لكن، وعندما وضع يده اليسرى على اليُمنى، وشبكهما معاً بقبضةٍ واحدة، قويّة ومُحكَمة، قال: «تلك هي «المعرفة» ولا يمتلكها إلا الحكيم».
القسم الثاني من فلسفته، هو الفيزياء، حيث يرى، أن الكون كيانٌ إلهيُّ عاقل، أو بتعبيرٍ أدقّ، هو الله الذي يمثّل الكلّ ويحتوي كلّ الأجزاء.. ويعرّف الطبيعة بأنها، الأثير أو شرارة أو نار إلهيّة، تعمل بشكلٍ فنيّ، وتُنجز عملية الخلق، أي أنها الأساس لكلّ نشاطٍ في الكون، والمادة الأساسية في الكون تأتي من النار، ثم تمرّ بمرحلةِ الهواء، ثمّ تتحوّل إلى ماءٍ، والجزء السميك يتحوّل إلى تراب، والجزء الأرق يتحوّل إلى هواءٍ مرة ثانية، ويتخلّل النار مرّة أخرى، في الأرواح الفردية التي هي جزءٌ من نار روح العالم، إذا تبنّى «زينون كهرقليطس»، وجهة النظر القائلة، بأن الكون خضعَ لدوراتٍ منتظمة من التكوين والدمار .
أما القسم الثالث من فلسفته، فالأخلاق، فقد أدرك أن الخير هو واحدٌ وحيد وبسيط لا يتجزأ، ويمثّل الهدف الذي يجب السعي من أجله، واعتبر أن السعادة هي تدفقٌ جيدٌ للحياة، ولا يمكن تحقيقها إلا باستخدام العقل بشكلٍ صحيح، ومنسجم مع العقلِ الكونيّ الذي يحكم كلّ شيء، وبأن هذا الانسجام والتناسق، يؤدي في النهاية الى الفضيلة التي تقود الإنسان بدورها، إلى الخير الحقيقي.. أما الشعور السيّء والحزن والكآبة، فهم اضطّرابٌ وخلل في العقل، وضد الطبيعة، وعدم انسجام مع روح العقل الكونيّ.. لذلك، ولطالما وجدت الفضيلة، فسيظلّ العقل هو السيّد، وكلّ مالا يوجّههُ من حالاتٍ وعواطف وأفعالٍ، غير أخلاقي ويُنتج أفعالاً غير أخلاقية.
بالإضافة إلى كلّ هذا، ميّز «زينون» بين أربعة مشاعر سلبية، الرغبة والخوف والسرور والحزن، وربّما كان مسؤولاً عن التمييز، بين المشاعر الإيجابية الثلاثة المقابلة، الإرادة والحذر والفرح، ومع عدم وجود مكافئ منطقيّ للألم، يجب اجتثاث جميع الأخطاء، لا مجرّد تنحيتها جانباً، واستبدالها بالفعل العقلي الصحيح.
على الرغم من تقديمِ «ديوجينس لايرتيوس» ملخصاً طويلاً جداً لأفكار «زينون» وغيره من الرواقيين. لكن وللأسف، لم ينج من كتاباته الأصلية سوى اقتباسات مجزأة، احتفظ بها كتّابٌ لاحقون استشهدوا به، ومن أشهر أعماله: «جمهوريّة زينون» التي كتبها في تقليدٍ مدروسٍ لـ «جمهورية أفلاطون»، وقد قدّم من خلالها أيضاً، رؤيته للمجتمع الرواقي المثالي .
لقد هيمنت الرواقيّة على تفكير العالم الهلنستي، وفيما بعد الإمبراطورية الرومانية، وفي ذروة قوّةِ روما، تنافست الرواقية مع الأبيقورية والأفلاطونية، للهيمنة على النخبة الفكريّة الرومانيّة، وكان الإمبراطور «ماركوس أوريليوس» من أتباع تلك المدرسة، حتى أن بعض عناصر الفكر الرواقي، أثّرت على المسيحية المبكرة.. لكن، مثلها مثل كلّ المذاهب العقلانية الأخرى، تدهورت مع تدهور الإمبراطورية الرومانيّة، وسارت معها نحو الفوضى، لكنها بدأت بالعودة بشكلٍ خجول، في أواخر القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، حيث برزت الرواقيّة الجديدة مع أبرز شخوصها، وهو «جوستس ليبسيوس» الذي حاول خلق تركيبة منهجيّة، بين المسيحيّة والرواقيّة، كذلك عاد الاهتمام الخجول، إلى المذهب الرواقي، في أواخر القرن العشرين، وبداية الحادي والعشرين، حيث زاد اهتمام غير المختصين بالفلسفة، بالجوانب العلاجيّة لطريقةِ الحياة الرواقية.

التاريخ: الثلاثاء3-8-2021

رقم العدد :1057

 

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار