الملحق الثقافي:عبد الحكيم مرزوق :
صدر حديثاً، عن «دار الإرشاد – حمص»، ديوانُ الشاعر الـمهجري «نسيب عريضة» الذي وُلدَ في مدينة حِمْص في آب/ أغسطس من سنة 1887 م، ونشأ فيها، وتلقّى عُلُومَه الأوَّلية في مدْرسَتها الأرثوذكسيَّة، وتخرَّج فيها بتفوُّق، واكتسبَ الكثيرَ من مواهب أستاذِه «داود قُسْطَنْطين الخوري»؛ ثمَّ سافرَ سنةَ 1900 م، إلى الناصرة بـ»الجليل» لمتابعة دراستِه الثانوية في المدرسة الدَّاخلية الروسيَّة (مدرسة المعلِّمين) في فلسطين، وهناك تَعرَّفَ إلى الطالب «ميخائيل نُعَيْمة» فتَصادقا وتحابَّا، وكان وصولُ الأخير إليها بعدَ عامين من مجيء «نسيب عريضة». وقد رُشِّحَ سنةَ 1904 م، لإكمال تعليمه الجامعي في روسيا، على نفقة الجمعيَّة الإمبراطوريَّة الفلسطينيَّة، بعد أن حصلَ على الـمرتبة الأولى في صفِّه، لكنَّه لمّا رجع إلى «حمص» عدلَ عن السفر إليها، وهاجر إلى الولايات الـمتحدة الأميركيَّة سنةَ 1905 م، طلباً للرزق، بعدَ إلحاحٍ من والده الذي كان تاجِراً.
اشتغلَ «نسيب» بعدَ وصوله إلى مَهْجره في مهنة «ماسِك دفاتر» عندَ أبناء عمِّه الذين سبقوه بالهجرة إلى نيُويُورك، ولكنَّ قلبَه وفكرَه وخيالَه وكلَّ جوارحه، كانوا يميلون إلى الشعر، فكان ينظمُه في أوقاتِ فراغه، أو يلجأ إلى الجناح الشَّرْقي من مكتبة نيُويورك العموميَّة، فيغرق الساعاتِ الطوالَ في مُطالعة ما يَسْتهويه من الكُتُب العربية، وقد سمَّاه بعضُهم «دائرة مَعارف» لكثرة ما عرف من أخبار العرب ونَوادِرهم؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يضيقَ صدرَه بالتِّجارة بعدَ بضع سنوات، فطلَّقها ليُؤسِّس مطبعة الأَطْلَنْتيك؛ وفي سنة 1913 أنشأ مجلّةً شهرية سمَّاها «الفُنُون» وفرَّغ لها الكثيرَ من وقته وجهده وفِكْره، وكانت من أرقى المجلَّات الأدبية فـي الـمَهْجر، لكنَّها توقَّفت عن الصدور مرَّتين؛ الأولى بعدَ صدور عدده العاشر، ثمَّ عاودَت الحياةَ سنةَ 1916 م، ولكن كان توقُّفها في المرَّة الثانية نهائياً سنةَ 1918 م، بسبب ضائقةٍ مالية شديدة، وبلغ مجموعُ أَعدادِها 29 عدداً.
لقد كان لتوقُّف «الفُنُون» أثرٌ محزن ووَقْعٌ ثقيل في نَفْس «نسيب»، وقد أسهمَ في رفد هذه المجلة بالمقالات والقصائد، كبارُ أدباء المهجر، مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ورشيد أيُّوب وعبد المسيح حدَّاد وشقيقه ندره حدَّاد، وغيرهم.
يقول «ميخائيل نُعَيْمة» عن هذه المجلَّة: «كانت «الفُنُون» بمظهرِها وترتيبها وتَبْويبها، فتحاً جديداً في دُنْيا الصحافة العربيَّة، تلاقت على صفحاتِها أقلامٌ فتيَّة، كان لها الفضلُ الأكبر في خلق النَّهضة الأدبيَّة الحديثة.»
شارك في تَحْرير «جريدة السائح» مدَّةً من الزمن، وكان قليلاً ما يذيِّل قصائدَه باسمه، واختار بدلًاً من ذلك اسم «أَلِيف». كما اشترك في تحرير «جريدة الهُدى» لصاحبها «نعّوم مكرزل»، وتولَّى تحريرَ «جريدة مرآة الغرب» لصاحبها «نجيب دياب» لأكثر من سَنتَيْن.. في نهاية المَطاف، اشتغلَ سنةَ 1942م، في مكتب الـمَعْلومات الحربيَّة الأميركي، خلال الحرب العالـمية الثانية، إلى أن أُقْفِلَ؛ كما عمل موظَّفًا في مكتب الأخبار بالولايات المتَّحدة، وأمضى فيه سنتين ثمَّ استقالَ واعتزل العملَ، لإصابته بمرضٍ في الكبد والقلب.
اشتدَّ المرضُ على «نسيب عريضة» في نهاية حياتِه، ووافته الـمنيَّةُ صباحَ يوم الإثنين 25 آذار/ مارس سنةَ 1946 م، وكان ديوانُه الشعري الوحيد «الأرواح الحائرة» لا يزال قيدَ التَّجْليد، حيث أخذَ في سنواته الأخيرة يجمع قصائدَه، التي غلب عليها طابعُ الحزن والانكسار والشَّوْق والحنين. ونُقلَ رفاتُ الفقيد إلى ضريحٍ جديد في مدينة «برُوكلين» في الولايات الـمتَّحدة، سنةَ 1954م، وأُقيمَت له حفلةٌ تأبينيَّة كبيرة، والجدير بالذكر، أنَّه أوصى في شعره، أن يُدفَن في حمص.
سنة 1920 م، أسَّس نسيب مع ثلَّةٍ من رفاقه «الرابطةَ القلميَّة» التي تولَّى «جبران خليل جبران» رئاستَها، وعاشت الرابطةُ نحوَ إحدَى عشرة سنة، ويشارُ هنا إلى أن فكرة تأسيس هذه الرابطة، برزت قبلَ ذلك بأربعة أعوام، أي سنة 1916م.
كان «نسـيب» مُغْرماً بالقراءة والتأمُّل في الطبيعة والحياة منذ صغره، وقد قرأ العديد من الكُتُب في الأدب العربي، ولاسيَّما دواوين الشعر، ثم بدأ ينظم الشعرَ في مختلف موضوعات الحياة، وغلبَ على شعره التأمُّل والحَيْرة والتساؤُل والقلق، فضلًا على الإِدْهاش والتَّجْديد. وقد أشار الأديبُ الـمهجري «إيليا أبو ماضي» إلى مثل ذلك حين قال: لقد كان نسيب عريضة، من أولئك الشعراء الذين ينفخون في الألفاظ فتتجسَّد صوراً تكاد تتحرَّك وتتكلَّم؛ ولكنَّ الملحوظَ في شعره غِناه بالصور القاتمة.
صدر للأديب «نسيب عريضة» ديوانٌ وحيد سنةَ 1946 م، وهو «الأَرْواح الحائرة»، وأُعيدَت طباعتُه بإخراج وتَنْسيق جديدَيْن، ثلاثَ مرَّات على الأقلّ، دون أيِّ استدراك أو إضافة لقصائد أخرى له، مَنْسيَّة أو مُغْفلة؛ ولكنَّ د. «حسَّان أحمد قمحية» وجدَ للشاعر العديدَ من القصائد التي لم تظهر في الديوان، بعضها منشورٌ في المجلَّات المهجريَّة، وبعضُها الآخر في كُتُب قديمة؛ فتتبَّع تلك القصائدَ وجمعها من جديد، وأضافها إلى الديوان القديم. وقد بلغَ إجمالي القصائد في هذا الديوان 143 قصيدة (ومقطَّعة)، أي بزيادة 39 قصيدة على ديوان «الأرواح الحائرة»، ويعادل ذلك أكثر من ثُلْثه، وأكثر من رُبْع الديوان الجديد الذي أصدره د.»قمحيّة» تحت اسم «ديوان الشاعر الـمَهْجري نسيب عريضَة – الأعمال الشعريَّة الكاملة (الأرواح الحائرة وقصائد أخرى)»، وقد جاء فـي 403 صفحات من القطع الـمتوسِّط.
لقد كان لـ «نسيب عريضة» عدَّةُ مؤلَّفات أخرى منها: «أَسْرار البِلاط الرُّوسي»، وهي روايةٌ معرَّبة عن الرُّوسية صدرت سنةَ 1933 م، وقد صدرت قبلَ ذلك على أجزاء في مجلَّة الفنون؛ و«ديك الجنّ الحِمْصي»، وهي قصةٌ نُشِرت في مجلَّة الفنون أيضاً، ثمَّ في مجموعة الرابطة القلميَّة الصادرة سنةَ 1921 م؛ و«الصَّمْصامَة» وهي قصَّة أخرى نُشرَت في مجموعة الرابطة القلمية أيضاً، إضافة إلى مقالات وفُصُول مختلفة نشرها الشاعرُ فـي مجلَّات الـمَهْجر وصحفه.
آخر مرَّة أُعيدَت فيها طباعةُ الديوان القديم للشاعر سنةَ 2018 م بتَنْسيقٍ وإخراج جديدين، وقدَّم له الدكتور «مِيشال جحا»؛ لكنَّ تلك الطبعةَ شابَها بعضُ الـملاحظات، ومن ذلك التقديمُ حيث وردَ في الـمقدِّمة أنَّ الأديبَ «جورج صيدح» ذكر في كتابه «أدبنا وأدباؤنا في الـمهاجر الأميركيَّة» أنَّ عددَ شعراء الـمَهْجر وأدبائه كان 130 كاتباً وشاعراً، ولم يُشِر المقدِّمُ إلى الطبعة التي وردت فيها هذه المَعْلومة، حيث تشير الطبعةُ الرابعة من الكتاب (وهي الأخيرةُ حتّى هذه اللحظة) إلى أنَّ عددَهم هو 180، 150 من لبنان و30 من سوريَة، ممَّا يدلُّ على فواتِ متابعة الطبعة الرابعة منه رغم توفُّرها. «لاحظت غياب قصيدة «يا جارتي في الغرب» عن الدِّيوان، وهي آخرُ قصيدة ورَدَت في ديوان «الأرواح الحائرة». كما سقطت عدَّةُ أبيات من قصيدة «سلَّة فواكه». وربَّما هناك ملاحظاتٌ أخرى، ولكن لم يكن هدفي تَتبُّعَها والتنبيه عليها، لأنَّ ذلك لا يضيف شيئاً إلى عملي هـذا، وإنَّما وجدتُ تلك الملاحظات مصادْفةً خلال التأكُّد من بعض الكلمات التي كانت مُشـوَّشةً، في طبعةِ الديوان القديمة التي توفَّرت لي».
أعاد الدكتور «حسَّان» ترتيبَ القصائد كلَّها بحسب القَوافي، وجعل لها فهرساً في نهاية الكتاب بحسب البحور، وأرفقَ كلَّ قصيدة باسم بحرها الشعريِّ وبمصدرها، سواءٌ أكان من ديوان «الأرواح الحائرة» أم من خارجه. وضبطَ النصوصَ الشعريَّة بالشَّكْل، وشرح معاني الكلمات الغَريبة أو العَصِيَّة. ولم يكن لبعض القصائد والـمَقْطوعات المضافة إلى الدِّيوان القديم عنوانٌ، فوضعَ لها عناوين من صُلْب القصيدة، وقد استهلَّ الديوان بلمحة عن حياة الشاعر قبل هجرته وبعدها، كما تحدَّث عن بعض سمات شعره وأغراضه. وقد سمَّى هذا العمل «ديوان الشاعر الـمَهْجري نسيب عريضَة – الأعمال الشعريَّة الكاملة (الأرواح الحائرة وقصائد أخرى)»، كما ذكرنا، مع أنَّ عبارةَ الأعمال الشعريَّة الكاملة تُطلَق عادةً على أعمال الشعراء الذين يكون لديهم أكثرُ من مجموعة شعريَّة، ثم تجُمَع في ديوانٍ واحد.
التاريخ: الثلاثاء3-8-2021
رقم العدد :1057