الفزّاعة

الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:

أحبّته لدرجةِ الهوى، والله يغفر عشق اللاجئين لوطنٍ بعيد، وأقرب من حبلِ الوريد.. عندما كانت تلقاه، يتلبّسها جنونُ الأحلام الورية، كعمرنا آنذاك !
كنت أعجبُ كيف تحبّه، أردّد على مسامعها خوفي منه، تضحك ببراءةٍ، وتقول: عندما تعشقين لن تسأليني عن ذلك.
لم أقتنع بإجابتها، فالوسامة مطلوبة في الشباب، إذ إن الشهامة وسامة، الغيرة وسامة، الصدق وسامة، لها أوجه متعددة، آسرة كجمال بلادي المغتصبة، وحياء أنثى.. !
أما فارس أحلامها ، فلا يشبه أيّ بقعةِ ضوءٍ في الليل والبلاد، أراه لا يشبه غير (الفزاعة) كما كانت تحلو لي تسميته !
أستغربُ بغضبٍ كيف يتشبه بجيفارا، وهو نقيضه في كلّ شيء، بدءاً من الوسامة، وانتهاءً بالإقدام والفروسيّة.. !
يتحدّث بصوتٍ خافت، يشارك في المهرجانات الثقافية والسياسية، يتصدّر الصف الأول في الحضور، ثم يلقي كلمته الرنانة، عاقد الحاجبين، ثاقب النظرات لكلِّ من حوله، يراقب كلّ تحرّك، لا يبتسم إلا ما ندر، حاد الطباع، يسير بسرعة، لا يلتفت لأيّ صوتٍ أو نداء، يمضي غير عابئٍ بالحضور والمشاركين، ولا يقبل النقد والمناقشة، قوله الفصل في اجتماعاتنا وحواراتنا، وفي كلّ شيء .
كنا جميعاً في الجبهة الشعبية، في بداية الثمانيات من القرن الماضي، لذا عرفته عن كثبٍ ولم يرق لي، أما صديقتي، فقد استطاع إيقاعها في شباكه بعد محاولاتٍ عدة.
تكلّل حبهما بالزواج، فرح الرفاق لزواج جيفارا من الرفيقة الملتزمة «حسنة»، إلا أنا، حزنت عليها، وعلى مصير طيبتها ووداعتها وهدوئها، مع «الفزّاعة».
والدي كان بعثياً، منفتحاً على عالمنا العربيّ، ملتزماً بقضيّته، قضية فلسطين، يتابعني بدقّة بعد انتسابي إلى الجبهة الشعبية، يشرف على سلوكي، وتوجيهي الدائم، بحذرٍ، مغبّة التهوّر، لصغر سني آنذاك، يستقبل كلّ رفيقاتي بكلّ حبٍّ واحترام، يعطينا محاضرات بالقضية وكيفيّة المثابرة على الهدف، والتمسّك بالثوابت والالتزام، وكيف أن الأمة العربيّة هي جسدٌ واحد، ولا حدود في القلب والروح ولا بينهما.
عندما أخبرته أني عازمة على الذهاب لزيارة «حسنة» لتأدية واجب المباركة، قال: سنذهب معك أنا وخالتك «وزارة الداخلية»، «حسنة» غالية عليّ كما أنتِ..
رحبتُ بفكرته بكلّ طيبة، وفرح.
ذهبنا في الموعد المحدد، المتّفق عليه مسبقاً عبر الهاتف..
كان استقبالاً رائعاً منها، ومن زوجها «الفزّاعة».
استأذنتُهم عندما همّت صديقتي لتجهيز الضيافة، لمرافقتها إلى المطبخ، ومساعدتها، مغتنمة الفرصة للضحك على قيودِ الزواج.
بدأت تمدح ثقافته وتفهمه، وإيمانه بحرّية المرأة وحقها في المساواة مع الرجل، وخاصة في العمل النضاليّ، وأنا أحاول إخفاء سخريتي وضحكتي عنها، بعد أن لمستُ أنها باتت مكبّلة به، قلت في سريرتي:
الله يرحمك ياحسنة الطيبة!
لا أعرف ماذا دار بين أبي وزوجها في صالة الاستقبال، كلّ ما أعرفه أن أبي بات على عجلةٍ من أمره، طلب فنجان قهوة بسرعة، بحجة أنه على موعدٍ مهم مع أحدهم!..
انتهت الزيارة بطريقةٍ جافة، وخفت سؤال أبي عن سبب العجلة، ووزارة الداخلية لن تجيبني إن حاولت الاستفسار منها، بلعت توتري وحيرتي، سرت بجانبه شاردة، وأنا أحاول أن أجد إجابة منطقية لتصرفه.
ما إن وصلنا إلى البيت حتى أصدر قراراً غير قابل للطعن، أو المناقشة أو الاستفسار، كما عَهِدته حين إصدار القرارات!.
قال:»إياك أن تذهبي عند حسنة بعد اليوم، والله أكسر رجليك، هي تأتي لعندك أهلاً وسهلاً بها، أما أنتِ، لاااااء، ولا تسأليني عن السبب..!
ارتحت لهذا القرار في البداية، فهو ذريعة مقنعة كي لا أزور حسنة وأرى جيفارا الفزاعة، سيطر عليّ حب الفضول لمعرفة السبب لفترةٍ وجيزة، ثم نسيت الأمر، ليقيني أن لأبي وجهة نظر موضوعية، أصوَب من مشاعري تجاه صديقتي!
سارت الحياة بعدها بهدوء، نتواصل على الهاتف، أو نلتقي مصادفة في الاجتماعات، بعد أن كثر غيابها، انشغلت هي بالحمل ثم الإنجاب، وأنا أخذتني الأيام إلى حيث أحلم…
بدأتْ تغيب علاقتنا رويداً رويداً من الذاكرة القريبة، بعد أن تركتُ الجبهة إثر خلافٍ مع المسؤول الثقافيّ، لقيامه بتعديلِ مقالةٍ أدبية، كنت قد قدّمتها لصفحة غلاف المجلة، نَشَرها دون أن يأخذ رأيي على التعديل، بحجة أن المرحلة تتطلب حذف ما تمّ حذفه، والتعديل تمّ بما يتوافق مع المتغيرات والمستجدات الطارئة على الساحة الفلسطينية، وأنا التي لا تؤمن إلا بالخطوطِ الواضحة والاتجاه الوحيد، ولست دبلوماسيّة لتقبّل الالتفاف والالتواءات الغامضة!
سنواتٌ قليلة باعدتني عن صديقتي، لا تخلو من مهاتفةٍ مقتضبة للاطمئنان عليها وعلى ولديها بين شهر وآخر، وأحياناً بعد شهور.. وكدت أنساها، لولا أن التقينا مصادفة في السوق، في الأسبوع الأخير من رمضان، أسبوع الازدحام الكبير والحياة في المخيم …
كانت تجرّ طفليها، الحزن بادٍ على وجهها، كأنها كبرت عشر سنوات أو أكثر، لم ألحظ براءتها ولا أحلامها في حياءِ ابتسامتها كما كانت..
سألتها بلهفة: هل أنت بخير؟.. وزوجك؟.. وأهلك؟..
بكت بكاءً أشبه بالنحيب، بكلِّ هدوئها المعهود، أجابتني متعبة، هامسة:
– لقد ألقي القبض على زوجي «الفزاعة» كما سميتهْ يا زهرة، بعد ثبوتِ تهمة التجسس عليه، واعترافه.
لقد أورثني وأولادي العار، بعد أن صبرتُ على خياناته المتكررة لي، مختلقاً كلّ الأعذار لتلك العلاقات المشبوهة، وما كان تقليده لجيفارا إلا قناعاً لا أكثر ولا أقل، ابن الحرام!..
فجأة، تذكرت والدي.. أمسكتُ بيدها، وعدت مسرعة برفقتها إلى البيت..

التاريخ: الثلاثاء10-8-2021

رقم العدد :1058

 

آخر الأخبار
روبيو يؤكد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب سوريا.. الشيباني: وضعنا بنية تحتية لبناء علاقات استراتيجية... ربط آبار بعد تأهيلها بالشبكة الرئيسية في حماة القمح المستورد أول المستفيدين.. عثمان لـ"الثورة": تراجع الطن 10دولارات بعد رفع العقوبات الخزانة الأميركية: بدأنا خطوات رفع العقوبات عن سوريا من تصريح إلى أمل.. السوريون وحق الحياة المسروق طلاب المدينة الجامعية بحلب يشكون ضيق الغرف ورئيس الجامعة: ندرس عدة خيارات القرار السياسي تأخير بترحيل القمامة من بعض شوارع دمشق... والمحافظة: نعمل بكامل الإمكانيات المتاحة وزير الأشغال العامة: رفع العقوبات يسهم في استقطاب استثمارات عربية ودولية الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة.. والاحتلال يضاعف مجازره في غزة عضات الكلاب تتزايد في درعا.. والطعوم  غائبة مشاركون في  مؤتمر العدالة الانتقالية لـ"الثورة": حاجة ملحة للسلم الأهلي وتحتاج للوقت والتشاركية "صحافيون من أجل حقوق الإنسان " في مؤسسة الوحدة استجرار الكهرباء غير المشروع تدفع ثمنه " مياه " درعا وفود سياحية أوروبية تزور آثار بصرى الشام Relief Web : "هيومن رايتس ووتش": رفع العقوبات سيعزز الحقوق والتعافي في سوريا مدير زراعة اللاذقية: القطاع الزراعي سيشهد انتعاشاً ونهضة حقيقية مكافحة 180 هكتاراً من حشرة السونة مجاناً  بالقنيطرة  أطباء بلا حدود يطَّلعون على احتياجات مستشفى بصرى الشام لماذا الانخفاض السريع بسعر صرف الدولار..؟