مع إعلان الولايات المتحدة سحب آخر جندي أميركي من أفغانستان بعد حرب بدأتها واشنطن في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وعقدين من احتلال لهذا البلد الآسيوي تحت عنوان الإطاحة بحكم طالبان وإحلال حكم الديمقراطية وحقوق الإنسان!!، تخرج القوات الأميركية تحت حماية عناصر الحركة الذين ربما الأغلبية منهم ولدوا أو انضموا للتنظيم في عهد الاحتلال الأميركي لبلدهم.
ولولا التفجير المزدوج الذي ضرب قرب بوابات مطار كابول وذهب ضحيته أكثر من 170 قتيلاً منهم 13 جندياً أميركياً لكانت واشنطن ستفاخر من اليوم وإلى زمن طويل بإنجازها أكبر عمليات إجلاء في التاريخ، في وقت تتفق فيه معظم الآراء على وصفها بأكبر هزيمة في التاريخ ليس فقط للولايات المتحدة بل لجميع الدول التي ساقتها واشنطن معها إلى حرب يراها البعض “عبثية” ويسأل كثيرون عن هدفها، إذ هي بدأت لإزاحة حكم حركة طالبان من هذا البلد وانتهت بتسليم البلد لنفس الحركة والخروج تحت حمايتها.!!.
لا يزال مطار كابول يستحوذ على اهتمام معظم وسائل الإعلام العالمية، ولا يزال مشهد التدافع أمام وخلف الطائرات وسقوط أشخاص من الطائرات بعد إقلاعها عالقاً في أذهان الملايين حول العالم، دون أن يروا في ذلك مدعاة للفخر لأي جهة كانت، لا الولايات المتحدة الأميركية التي ظهرت كمن يفر بجلده تاركة خلفها آلاف الأفغان المتعاقدين مع جيشها، ولا حركة طالبان التي ظهرت وكأنها الجحيم القادم على الناس مع سيطرتها على العاصمة دون قتال.
بلا شك تستطيع الولايات المتحدة أن تفاخر بامتلاكها أكبر قوة عسكرية في العالم وأكبر القواعد العسكرية المنتشرة في المحيطات والقارات وسيطرتها على المنظمات الدولية والفضاء الافتراضي، وشنها معظم الحروب التي شهدتها العقود الأخيرة، لكنها بلا شك أصغر من أن تفاخر بعمل إنساني أو أخلاقي، تفضحها سياساتها تجاه منطقتنا العربية وتجاه أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية وطريقة تخليها عن حلفائها.
بالمقابل تستطيع حركة طالبان التي احتشدت العشرات من دول العالم تحت الطلب الأميركي بدعوة محاربتها على مدى عقدين من الزمن، أن تفاخر بعودتها إلى السلطة مع فرار أدوات الحكم والعسكر الذين صنعتهم واشنطن ودفعت مليارات الدولارات عليهم، واستيلاء عناصرها على عشرات الطائرات الأميركية المتروكة وغيرها من الأسلحة في القواعد العسكرية، لكن الحركة ما زالت أمام اختبار الحكم وخصوصاً مع الصور التي انتشرت من كابول عن مشاهد آلاف الأفغان الفارين من قدر قادم يعتقدون بأنه الجحيم.
مهما حاولت الولايات المتحدة تغطية هزيمتها في أفغانستان سواء عبر الحديث الممجوج عن أكبر عملية إجلاء عبر التاريخ أم من خلال الحديث عن أنها أنجزت المهمة وأنها لن تتخلى عن حلفائها وستواصل توجيه ضربات لما تسميه تنظيم ولاية خرسان التابع لـ”داعش”، فإنها لن تستطيع أن تزيل صورة الهزيمة التي ارتسمت في عقول ملايين البشر واستعادت معها إلى الأذهان صور الهزيمة في فيتنام عام 1975.
ليس هذا فحسب، لقد شكل الانسحاب الأميركي من أفغانستان أساساً منطقياً لتحليلات كثيرة في الصحف الأميركية والغربية عن أنه مقدمة لانسحابات قادمة قد تكون سورية أولها وفق ما ذكرت صحيفة فورين بوليسي الأميركية، مستندة إلى تحليل السياسة الأميركية والانسحاب الذي جاء بعد إعلان واشنطن إن “المهمة أُنجزت” وتالياً إعلان ترامب القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي في سورية والعراق.
قد لا ننتظر طويلاً لنرى بعض مشاهد مطار كابول تتكرر في مناطق سورية، لكنها لن تكون مطارات بكل تأكيد، بل أشباه مطارات وأشباه معابر حدودية.
إضاءات- عبد الرحيم أحمد