لم يكن مفاجئاً قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا بعدما تأكد له أن الولايات المتحدة والناتو تريدان تحويل كييف إلى رأس حربة في استهداف موسكو وخنقها في محيطها الجغرافي والسياسي، فالمقدمات التي كتبتها واشنطن عبر الضغط والتوسع في المحيط الحيوي لروسيا لن يكون جوابها أقل مما فعله سيد الكرملين.
على مدى شهر ونيف والإعلام الغربي ومسؤولو الإدارة الأمريكية يتحدثون عن غزو روسي وشيك لأوكرانيا وحددوا ساعة الصفر مرات عدة، ولم تترك موسكو طريقة إلا ونفت فيها نيتها أو رغبتها في شن حرب ضد أوكرانيا، لكن من دون أن تتمكن من تغيير اتجاه طوفان الأخبار الكاذبة التي تروج لها منافذ الإعلام الأمريكية، وحتى بعد أن بدأ القصف الأوكراني لبعض مناطق دونيتسك ونزوح الأهالي إلى روسيا، واصل البيت الأبيض الحديث عن غزو روسي!!
ماذا يمكن أن تتوقع الولايات المتحدة ومعها الناتو من موسكو التي تطمح اليوم لاستعادة دور الاتحاد السوفييتي وإعادة رسم الخارطة السياسية الدولية وبناء عالم متعدد الأقطاب تنتفي فيه الأحادية القطبية التي سيطرت عليها واشنطن عقدين من الزمن؟ ماذا تتوقع منها وقد وصل الناتو إلى عتبة دارها ونصب الصواريخ في جوارها؟ هل يتوقع بايدن أن موسكو ستقتنع بأكاذيبه عندما يقول: إن توسع الناتو إلى حدودها لا يستهدف روسيا؟
لاشك في أن ما حدث بالأمس سيعيد رسم الخارطة السياسية للعالم وفق أولويات المحور الروسي الصيني الإيراني السوري، قبلت واشنطن ومعها العواصم الأوروبية أم لم تقبل، فقد تبدلت القوى العالمية ولم تعد أوروبا تلك القوة المؤثرة، ولم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي تسيطر على مجريات الأحداث الدولية منذ أن وقفت موسكو وبكين في مجلس الأمن الدولي لتعلنا رفضهما المخطط الأمريكي ضد سورية.
لقد كانت سورية بصمود جيشها وشعبها بوابة الصعود الروسي ومنطلق التأثير الفاعل على الساحة الدولية المبني أصلاً على سنوات من تطوير موسكو لقدراتها العسكرية والاقتصادية التي فاجأت العالم بمدى تطوير سلاحها ومدى كفاءته وفعاليته، ليتوج اليوم بقوة ردع يحسب لها الغرب بقواه مجتمعة ألف حساب.
أدرك الكرملين منذ سنوات أن الولايات المتحدة تقاتل للاستمرار باستفرادها بالقرار الدولي والحفاظ على موقعها قوة عظمى متفردة، معتمدة على قارة أوروبية تابعة، وعلى تنظيمات إرهابية و”ثورات ملونة” للإطاحة بالدول والحكومات التي تناهضها وتركيب بيادق مكانها تصلح للاستخدام في حروب واشنطن الجيوسياسية، كما فعلت في جورجيا وأوكرانيا وفي ما سمي “الربيع العربي”، فأسرعت موسكو لقطع الطريق عليها في سورية وفي كازاخستان مؤخراً.
اليوم أصبحت خطوط الاشتباك بين محوري موسكو – واشنطن واضحة تماماً ترسمها خطوط النار في سورية وفي أوكرانيا وصولاً إلى الخليج العربي ومحيط تايوان الصينية، ومن يقرأ مسار الزيارات خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة يدرك تماماً أن المحور الروسي الصيني الإيراني السوري يتعاضد ويعمل معاً على تصليب جبهات الاشتباك.
فالسعار الأمريكي لإشعال الحرب على الحدود الروسية ودفع الحلف الأطلسي (الناتو) وخصوصاً الأوروبيين أمام واشنطن إلى خنادق البلطيق والبحر الأسود تطلب من محور موسكو وضع الإصبع على الزناد لأن المعركة واحدة رغم تباعدها الجغرافي. فما فعلته واشنطن على الساحة السورية وفشلت فيه تحاول أن تفعله على أبواب موسكو، وسوف تحاول أن تفعله على أبواب بكين في تايوان وعلى أبواب طهران في الخليج.. وبدل أن تنتظر تلك الدول أن تستفرد بها واشنطن، عليها أن تجتمع معاً للمواجهة.
والبيان الذي صدر خلال زيارة الرئيس بوتين إلى بكين واجتماعه مع الرئيس شين جين بينغ يؤكد المسار الذي ستسير فيه العلاقات الدولية المبنية على التعددية ورفض هيمنة الناتو وتدخله في الشؤون الداخلية للدول.
لن تنفع واشنطن والدول الغربية بيانات الإدانة لقرار الرئيس بوتين الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وقد علمتنا الأيام أن القوة قادرة على حماية الحقوق، وأن البيانات للاستهلاك الإعلامي فقط، وأن العقوبات التي تريد الدول الغربية فرضها على موسكو ستكون لها تداعيات على من يفرضها أيضاً، وأن موسكو تستطيع أن تتعايش معها كما تفعل طهران.
ومن يقرأ المناورات التي تجريها القوات الروسية في البحر المتوسط بإشراف وزير الدفاع الروسي وبمشاركة القاذفات الروسية الاستراتيجية وصواريخ فرط صوتية ومجنحة وعشرات القطع البحرية بالتوازي مع مناورات “الردع الاستراتيجي” في بحر قزوين والبحر الأسود ومناورات “الثالوث النووي” باستخدام أحدث الأسلحة والصواريخ المجنحة والفرط صوتية بإشراف الرئيس بوتين ونظيره البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو، تتأكد له خريطة الصراع الحالي وخطوط الجبهات المشتركة وأنه لا تفريط بأي جبهة من الجبهات.
إضاءات- عبد الرحيم أحمد