الثورة أون لاين – علم عبد اللطيف:
استمرت فيروز في أغانيها التي تحتل الإعلام الصباحي في عشرات وسائل التواصل في المنطقة العربية كلها، وهي حالة تستدعي التفكير حقيقة، حين لا نجد مستمعاً يقول لقد مللنا هذه الأغاني التي سمعناها مئات المرات، ربما يعود السبب إلى طبيعة المادة الفنية الفيروزية، فهي أغانٍ قصيرة رشيقة، تتيح الانتقال السريع إلى مقامات مختلفة ومتنوعة، عدا عن كون أغاني فيروز ليست غناء فقط.. أو موسيقا فحسب، هي أكثر من ذلك بكلماتها الشعرية، وبحالتها الفنية الراقية والرومانسية التي تخاطب الروح وتساجلها كل لحظة.
كتب كثيرون عن فيروز والرحابنة، مختصون بالموسيقا والغناء، وبالميديا وبالدراما.. وتبدو تجربة الرحابنة تتسع للكثير من الحديث كلما مر الزمن، والسبب ليس مقارنة التجربة فنياً مع ما قُدم بعدها خلال عقود فقط، بل لأن هذه التجربة لا تزال تنضج متفاعلةً مع الثقافة والزمن، شأنها شأن الأعمال العظيمة في التاريخ، تقوم الثقافة والزمن في كل مرحلة بقراءتها مجدداً، فتجربة من هذا النوع قدمت عناصر دلالية فنية وفكرية وثقافية بهذا المستوى، ستستمر قراءتها بتطور الثقافة.
عندما نقول إن ظهور التجربة الرحبانية كان مترافقاً مع صعود البرجوازية الصغيرة في المنطقة، فإننا لا نقصد الإحالة إلى التوصيف السياسي، ومنحها هوية سياسية أو طبقية، بل يجب أن ينصرف الحديث عن علاقة الفن في مرحلة صعود طبقي معين، مستعملاً الأدوات التي ينتجها التحول، طبقياً أو سياسياً أو اجتماعياً.
التجربة الرحبانية كان لها سبق استخدام أدوات مستجدة أنتجها التحول إياه، الرومانسية، مقابل.. أو على أنقاض الكلاسيكية، والرومانسية تحيل لغة ومفهوماً إلى الخيال والحلم، الرومانسية المدرسة أو المذهب الفني والأدبي، الذي هو نتاج إطلاق الذات الحرة الواعية في مشروع العقلنة الذي يحيل إلى الحرية أيضاً، وحقيقة أن طبيعة وهوية التجربة مثلت فهماً واستيعاباً للرومانسية ليس لجهة الحلم فقط، حتى في هذا فإن الحلم كان مشروعاً ومفهوماً في مرحلة نهوض وطني وبناء دولة، كلبنان وسورية، ولم تكن رومانسية الرحابنة لتقف عند حدود رومانسية جبران حتى، فأضافوا بعداً اجتماعياً لمشروعهم الرومانسي، وبدا أن حلمهم، رومانسياً أو واقعياً، له من حظوظ النجاح ما يفوق الإخفاق، بعد التحولات السياسية في المشرق، وبعد ثورة الميديا في العالم، ولم يكن حلماً بغياب العقل، هي رومانسية بلاد الشام تحديداً، المنزاحة حتى عن رومانسية مصرية أو خليجية إذا افترضنا وجود هاتين الأخيرتين في مرحلة التجربة الرحبانية أو بعدها، في الشعر والموسيقا وطريقة تناول الفكر ذاته، الفكر الذي يحيل إليه مجمل المشروع الرحباني في الأعمال الممسرحة والأوبريتات، وحتى في الباقات الفنية الطويلة، مروراً بالتنويع الممتد من الموشحات والأدوار إلى اللوحات الموسيقية والمشهدية.
إذن يمكن أن نلاحظ حداثة الرومانس في الشعر المحكي، وحتى في القصائد التي تحمل الطابع التحديثي، سواء سميناه رومانسياً أو حداثياً، وفي الميديا الموسيقية، تنويعاً وتوزيعاً، مستمدة من التراث الغنائي والموسيقي العربي في قديمه وجديده، وتلاقحاً مع موسيقا العالم، ومع طبيعة المادة الفنية الممنهجة التي تم تقديمها، بدءاً من حجم الأغنية، إلى عالمها وطريقة توصيلها وتواصلها مع الذائقة، باعتبارها تمثل جيلاً ينتمي إلى الحداثة.
يمكن تناول شخصية فيروز ابتداءً في الحديث عن نجاح وتألق التجربة الرحبانية، هذه الفنانة التي عرفت كيف تُخلِص للمشروع وتفهمه، بطبيعة تفكيرها أولاً، وباستعدادها وقدرتها على تمثل التجربة فنياً، صوتاً وأداءً، بعد أن خضعت لعملية بناء صوتي، وإتقان المقامات الموسيقية، بما ينسجم مع طبيعة المشروع ذاته، ورغم أن صوت فيروز، كما قال منصور الرحباني مرة، هو صوت يمثل نوتة موسيقية كاملة، ويرقى إلى جواب الجواب الذي عرفت به أم كلثوم، إلا أن فيروز والرحبانيين، لم يكن في مشروعهم استعراض قدراتها الصوتية في أدائها، واقتصر أداؤها على تقديم الأغنية والمادة الفنية بما ينسجم مع الحالة الفنية، وإن كانت في بعض أدائها قد أوصلت صوتها إلى جواب الجواب موسيقياً، كما في أعطني الناي وغنِّ، وغيرها أيضاً.
فيرورز التي قامت بدورها الغنائي بامتياز الفنانة القديرة، كانت أيضاً الممثلة الناجحة في المسرح، وبلغت مستوى رفيعاً في التمثيل والأداء الدرامي في غالبية المسرحيات التي قدمت على مسرح بعلبك وفي دمشق وعمان، وفي الأفلام التي قامت ببطولتها بدءاً من بياع الخواتم وبنت الحارس وسفر برلك، ولم يكن أداؤها يقل عن أداء الممثلات المحترفات في كل هذه الأعمال، فكانت ركناً أساسياً وعنصراً مهماً في إنجاح التجربة الرحبانية وفق الدارسين والمتابعين.
عاصي الرحباني ومنصور، كانا عماد التجربة، بوضوح الهدف واكتمال الرؤية الفنية والفكرية، الشاعران اللذان يكملان بعضهما فنياً، عاصي أمير اللغة المحكية، التي جارى فيها كبار شعراء الزجل والشعر المحكي في لبنان والمنطقة، وقدم المقطع الغنائي بأسلوب السهل الممتنع.. ومنصور الذي نظم القصيدة العمودية المحدّثة والمركبة، متعددة الأبعاد فنياً وتصييغاً، واستطاعا بدأبهما وإخلاصهما تأليف فرقتهما الموسيقية، الفرقة التي قدمت الرقص والغناء والتمثيل بالمستوى والشكل الذي خططا له وعملا على تقديمه وإنجاحه، فكانت مدرسة فنية متكاملة وناضجة، وعالماً جمالياً.. ساهم في نشاطها وفعالياتها كبار المطربين في لبنان والمنطقة، وخرّجت العديد من المطربين والمطربات.
في المسيرة الرحبانية يمكن أن نلاحظ مدى الالتزام الفني والثقافي والفكري، بالمستوى العالي والمدروس في كل مفردات المشروع، شعراً وغناءً وأداءً درامياً، كما يمكن أن نرى مدى إحساس أصحاب هذا المشروع بتمثيلهم العالي والدقيق لمتذوقي فنهم ومتابعيه، فابتعدوا عن شخصانية المادة عموماً، فهم لا يمثلون أنفسهم فقط، بل حالة عامة جمعية عرفوا كيف يقدرونها، وكان مشروعهم يمتد ببعده القومي في بلاد الشام التي غنوا لها ونهضت في قصائدهم وأعمالهم المسرحية، وهو أمر مشروع بما يفيد مسألة جماعية التفكير والتمثيل في تجربتهم.