الملحق الثقافي:محمد الحفري *
وضعنا لهذه المادة الموجزة، عنوان المراوحة في المكان، بعد مشاهدتنا للعرض المسرحيّ الذي يحمل عنوان «سوبر ماركت»، وهو من تأليف الكاتب الإيطالي «داريوفو» وإخراج الفنان «أيمن زيدان»، فما الجديد في هذا العرض؟!..
منذ ما يقرب الثلاثين عاماً، قُدّم هذا العرض ولعب فيه الفنان «أيمن زيدان» دور البطولة، ولعب الدور ذاته بعد وقتٍ، أو في المرّة الثانية، ابنه «حازم زيدان»، ثمّ عاد ليمثّل هذا الدور، في العرض الذي يُقدّم الآن، على مسرح الحمراء في دمشق، وللمرة الثالثة.. فهل هذا هو الجديد فقط؟. وهل هناك جديد فيما يقدّمه المسرح القوميّ من عروضٍ، تعتمد على نصوصٍ عالمية سئمنا منها، ومن طرحها الذي لا جديد فيه، والذي يبتعد كلّ البعد عن قضايانا، وإن لامسها أو مسّها، فهو كأنه يمرُّ من جانبها ويلوّح لها من بعيد.
قد تختصر حكاية العرض المسرحيّ والنصّ من قبله، على سرقة «السوبر ماركت» من بعض الشخصيات، ومن ثم حضور الشرطي الذي يبحث مع رجاله عمن فعلوا ذلك، وليقول لنا إنه يعاني ما عانى منه الناس، من ضنكِ وواقع الحياة المعيشة، وقد بدأ عرضه بما يشبه الأغنية التي تتحدث عن رفض الناس لذلك الغلاء الذي يفتك بحياتهم.
هذه هي القصة بكلّ بساطة، ونحن نقرُّ بدايةً، أن العرض كان ظريفاً وهناك توافق إلى حدٍّ كبير، بين المادة النصّية التي تعود لـ «داريوفو» وبين الرؤية الإخراجية، وقد ضحك قسمٌ من الجمهور ما يزيد على الساعة تقريباً، فهل يعني هذا نجاحاً يسجّل للعرض، أم إن الناس ومنهم الجمهور الذي حضر، يعبّرون في هذه الظروف العصيبة التي نمرّ بها، عن حاجتهم للفرح؟!.
يستحضرنا هنا ما قاله «أرسطو» في هذا الشأن: «يجب دكّ رصانة الخصم بالضحك، وجعل الضحكِ منافساً للجد»، وهذا الكلام ربما يعيدنا إلى مسألة التوازنات التي يريدها أيّ عملٍ أدبيّ أو فنيّ، وعن الأدب الساخر تقول القاصة «غادة اليوسف» في كتابها «ما رآه القلب»: إن الأدب الساخر فنٌّ، لا يتأتّى إلا قلّة من الموهوبين، القادرين على إيقاع المتلقّي في حمأة المفارقة.
استحضارنا للمثالين أو القولين السابقين، يستدعي التفكير الجاد في مسألة التوازي بين الجدّ والهزل، وبين ما يحدثه من مفارقة، ولعلنا بذلك نهدف الوصول إلى الأفضل، والعرض المذكور اعتمد السخرية لمناسبةٍ ومن دون مناسبة، كما يقال، وقد جعل الإخراج من كلّ واحدٍ من الذين شاركوا التمثيل، نسخة مصغرة عن المخرج، ولذلك شكّلت حركاتهم المبتذلة والزائدة أحياناً، عبئاً على العرض، وفيها الكثير مما هو مكرّر، وقد يتّفق الكثير من النقاد، على أن الغاية من الضحك ليست الضحك في حدّ ذاته، وإنما ما ينتج عنه بعد ذلك، من مكاشفةٍ واكتشاف وإثارة للأسئلة المُرّة والموجعة، وهو شحن وتفكير وليس تفريغاً للهموم والطاقات كما يعتقد بعضهم، وعلى هذا الأساس لا يمكن تعريفنا للملهاة على أنها فنٌّ فقط، وفي ظلّها تندرج أشياء كثيرة كالرسم والرقص والنحت وغيرها، وإن كنا نركّز دائماً على القصة والمسرحية، فذلك لأنها تتجلّى فيهما بشكلٍ أوضح، ففي القصة تظهر لنا بين تلافيف السرد، وكذلك الأمر في الحوار وتصاعد الصراع مسرحياً، سواء كان هذا الحوار ملغزاً أم واضحاً ومكشوفاً أمام الجمهور، والملهاة لا تبتعد أيضاً عن الرواية، في مقطعٍ أو فصلٍ من فصولها أو تفاصيلها، وربما يكون العمل كاملاً مكتوباً بهذه الطريقة، فبعض الكتاب يمتلكون نفساً طويلاً في هذا المجال، والكثير من الأعمال تحمل الطابع الفكريّ البحت، ولكنها قُدّمت ضمن القالب الكوميديّ، ونجحت في ذلك وحقّقت غايتها المرجوة، وكاتب هذا العمل «داريو فو»، هو من الكتّاب الذين يبدعون بحقٍّ في مجال السخرية، ومسرحيته الشهيرة «العاري الأنيق» هي خير مثالٍ على ما نقول، وهو لا يترك عمله المذكور من دون مقولة فكريّة مفادها: قل لي ماذا تلبس أقل لك من أنت.. وهذا يدفعنا لنسأل، عن مقولة هذا العرض الذي قُدّم على مسرح القباني، ولا حاجة لنذكر بأن مهمة الإخراج، توضيح تلك المقولة أو قسماً منها على الأقل.
نريد القول في نهاية المطاف، إن بعض الجهات ومنها القوميّ، قد انفصلت عن مجتمعها وعالمها المحليّ، إلى حدٍّ كبيرٍ، بحجة العالميّة والإنسانيّة، لتبتعد عن واقعها من دون أن تكلّف نفسها البحث عن نصٍّ محليّ واحد، يُقدّم على مسارحنا، ولو تتبّعنا مسيرة النتاج المقدم للجمهور، سنجد ذلك واقعاً لا مجال للمجادلة والنقاش فيه، وقد يعود ذلك بالدرجة الأولى، إلى تضخّم بعض الشخصيات القائمة على الأمر، وترفّعها عن النصّ المحليّ، وهي بذلك تجسّد من يخرج من جلده، مقلداً غيره لغايةِ التقليد فقط.
*كاتب روائي ومسرحي
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1063