الملحق الثقافي:دريد عوده *
أيّتها الروح العمياء! تسلّحي بمشعلِ الأسرار، وفي ليلِ الأرض، ستكتشفين صنوك النورانيّ: الروح السماويّة. اتبعي هذا المرشد الإلهيّ وليكن ملاكك، لأنه يحملُ مفتاح حيواتكَ السابقة والآتية.
مناجاة المستنيرين.. «هرمس – كتاب الموتى»
ثمّة موتان: الموت الجسديّ الذي يخلع عنا قسراً، أثواب أرواحنا الجميلة التي حاكتها لنا شمس الحياة فكان فجر ذواتنا؛ والموت المعنويّ الإرادي، الذي نخلعُ به عنّا، الأكفان التي حاكها لنا الأنا من ظلمة أفكاره، نمزّقها ونلقيها في الريح، فنكون بذلك فجراً لذواتنا.
الموت الأول، الموت الجسدي الذي نكون به ضحايا القدر، يقودنا إلى العود الأبديّ، يُبقينا أسرى في دائرة الحيوات والولادات، فالعود ليس أبداً الولادة الثانية.
أمّا الموت المعنويّ الإراديّ، فبه نكون قدر ذواتنا، وبه نحطّم قيود الأنا التي نضعها بأيدينا في أيدينا، فيحرّرنا حقًا من حلقة الموت، لأن الأنا هو الموت، موت الروح، ويقودنا هذا إلى الولادة الثانية.
العَود هو نحن، وقد عُدنا في دولابِ المِيتات والولادات، غير واعين: هي عودتنا على يدِ القدر نفسه الذي أخذنا.
أمّا الولادة بالروح، فهي نحن وقد عدنا بالوعيّ الأرفع، وَعينا غاية وجودنا وغاية الحياة، وبأن حياتنا الحقّ تكون، لمّا الآخرون يكونون بنا ومعنا، أحياء في كنفِ وحدةِ الوجود المطلقة.
الأنا ينسجُ لك شرنقتك، أمّا الروح فتطلق أجنحتك في مروج الحياة وتجعلها تعانق الشّمس.. شرنقتك تنسجها بنفسك فتكون لك سجناً، أمّا وحدة الحياة المطلقة، فتنسجها مع الآخر فتحررك حقّاً.
بيت الفراشة الحقيقي هو الفضاء الرحب، هو خيوط الشّمس لا خيوط الحرير.. بيتك الحقيقيّ هو الآخر، قلب الآخر، عندها يكون الله في قلبك.
وبيتك الحقيقيّ هو الحياة، كلّ الحياة، عندها تكون في قلب الله الذي هو الحياة، وفي كنفِ النّور الذي هو الحياة وقد فتحت عينيها.
الفراشة بنفسها حاكت شرنقتها لمّا كانت يراعة، وأن تهدم بيتها فإنها جلجلتها. لكن بيتها الحقيقيّ هو الفضاء الرحب، الذي تنسجه أجنحتها بخيوطِ الشّمس.
الفراشة تولدُ في الفضاء، لمّا تخرج من الشرنقة. هكذا تولد الروح، لمّا تفتح جناحيها في فضاءِ الآخرين، في فضاء الحياة الرحب، وبجناحيها هي نفسها، ترسم ذاك الفضاء بخيوط النور: نور الله، وخيوط الحقِّ والخير والجمال..
أيّها الإنسان: إلى أين أنت هاربٌ من ذاتك؟.. عليك أن تواجه الموت في الحياة، لا أمام القبور الموصدة.. ثمّة قبور كثيرة في الحياة لتقف أمامها، وهي أكثر بكثيرٍ من قبور الأموات، أمّا أولها: فهو قبركَ أنت، وإلى هناك اذهب قبل أن تذهب إلى قبور غيرك.
أمام القبور، أنت تبحث عن ذاتك وسط حطامك، إنما قبور الأموات نزورها نحن الأحياء، لنعرف سرّ الموت، وطوبى له من يزور قبره وهو حيّ فيعرف غاية الحياة.
نأتي إلى قبور موتانا حاملين أسئلتنا الكبرى عن أسرار الموت. لكن، لنترك معنى الموت لأصحابه، ولنبحث نحن الأحياء عن معنى الحياة.. نأتي إلى قبور موتانا سائلين عن معنى حياتنا نحن، وعن معنى الحياة وجدواها إذا كنّا كلنا سنموت يوماً، فلنترك الموت مطبقاً على أسراره، ولنفتح قلب الحياة فنعرف أسرارها، ومعانيها وغاياتها.
كُثرٌ من الأحياء لا يعرفون معنى الحياة، فيأتي الموت ليكشف لهم هذا المعنى. أمّا معنى الموت فلا يقف عليه غير المتحقّقين؛ هؤلاء تُخرجهم الحياة من قبورهم ليتحقّقوا، ومتى تحقّقوا، يتحقَّقوا من أسرار الموت ومعانيه.
لا قيمة للموت أو للحياة بحد ذاتهما؛ قيمتهما أنهما سبيل للتحقّق، سبيل لنحقّق ذواتنا، إذ ليست الحياة من دون تحقيق معانيها وغاياتها سوى موت مقنّع. مثلها مثل حبة حنطة، لم تصِرْ سنبلة، هي جوهر البذرة، فيأكلها التراب وكأنها لم تكن، ومثل سنبلةٍ لم تصِرْ حنطة، هي غاية السنبلة، فتحرقها الشّمس بدل أن تذهّبها.
لا قيمة للحياة ولا للموت، من دون معرفة غاية الوجود والخلق، أمّا تحقيق الغاية من وجودك، فيعطي معنى لموتك كما لحياتك.. معرفة وتحقيق غاية الخلق، يعطيان معنى للموت وللحياة: في هذا الميزان يتساويان، يصبح الموت والحياة مترادفين.
وفي غير هذا الميزان أيضاً، أي في ميزانِ العدم، يتساوى الموت والحياة، وسيّان عندها إن كنت ميّتاً أم حيّاً، فأنت في حياة العدم ميّتٌ ميّتٌ ميّت…
كثيرون يتحقّقون في الحياة.. طوبى لهم.. وكثيرون بالموت يتحقّقون، فطوبى لهم أيضاً.. لذا دع الأموات يمشون دروبهم، وامش أنت الحيّ دربك..
الأبُ الذي روحه تتأمل روحك، قبل أن تتجسّد، أي الذي يراك في عالم المُثل قبل أن يراك في عالم الصور.. الذي يعاينك في عالم الذرِّ قبل أن يراك في عالم التذرّي.. الذي يراك في الوحدة المطلقة للوجود قبل أن يراك في عالم الأجزاء، يكون معلمك لا أباك: يكون الرؤيوي.
الرؤيوي، فعل الخلق الجسديّ، لديه فعل روحي: ينجبك لغايةٍ.. بين التكاثر والخلق، هو هذا: الخلق هو تناسل لغاية.. والخلق الأعظم، هو لمّا يكون التناسل من أجل خدمة غاياتِ الحياة العليا.
الرؤيوي هو أبوك بالروح، وهذا لا يموت لأنك أنت رؤياه الباقية، وحتى لمّا تموت، هو لا يموت لأن الرؤيا التي هي أنت، ستبقى من بعد موتك.
كثيرون ينجبون أمواتاً للحياة، وقلّة ينجبون لها الأحياء، وهؤلاء هم أبناء وبنات الحياة.. ولأن غاية الحياة العليا تحقيق الألوهة في الأرض، فإن هؤلاء هم أبناء النور، أبناء الله..
تموت البذرة في ثنايا التراب، لكن منها تطلع الشجرة المثمرة في الأثير. ولمّا تعرّيها العاصفة في الشتاء وتموت، يكون ثمرها غذاءً للأفواه، وعصارتها طي القلوب، ولبابها طي الأرواح، لأن اللباب هو روح الثمرة، وروح الثمرة غذاء الروح.. فالأرواح إلى موائدِ الأجساد تجلس، لكنها تأكل من وليمة الروح..
هكذا: الرؤيوي هو البذرة طيّ التراب، وأنت الشجرة المثمرة التي ستعرّيها ريح الموت يوماً، ومعرفتك الباقية بعدك، هي الثمر في الأفواه، ورسالتك العصارة في القلوب، وحكمتك غذاء للأرواح.
أبناء الرؤيوي هم أنت، والذين هم من بعدك أبناء لك، بالروح لا بالجسد.
قد رآك الرؤيوي قبل أن رآك، وعرفك قبل أن عرفك: أنت ابن رؤياه، والرؤيا لا يحدّها زمن ولا يحيقها مكان، ولا تكون بالجسد ولا تذهب مع الجسد، لأنها بنت الروح.. قد عاينك الرؤيوي بروحه التي لا يحدها جسدٌ حاضر أو غائب.
أنت ترى الزيتونة الملقاة على الأرض، لا الشعلة النائمة فيها. أنتَ تلك الشعلة النائمة وعليها أن تستيقظ وتتوهّج، فإذا استسلمتَ أنت لظلمة العاصفة التي اقتلعت الغصن عن الزيتونة المباركة وأسقطته عن شجرة النور، ولم تستيقظ، تضمحل الشعلة النائمة وتنطفئ إلى الأبد..
* مفكر لبنانيّ يقيم في نيويورك
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1063