الثورة أون لاين – مها الداهوك:
فكرة إنشاء قوة أوروبية مشتركة لحماية الأمن الأوروبي بعيداً عن التبعية الأميركية، يبدو أنها تتبلور لدى الكثير من المسؤولين الأوروبيين، وهذه الفكرة يعززها فقدان الأوروبيين ثقتهم بالجانب الأميركي، حيث تفاقم انهيار هذه الثقة بعد الانسحاب الأميركي المذل من أفغانستان، وتخلي واشنطن عن حلفائها وشركائها الأوروبيين، لاسيما في مطار كابول خلال عملية إجلاء الرعايا والموظفين الدبلوماسيين الأوروبيين، فالامتعاض الأوروبي كان واضحاً لجهة تحكم القوات الأميركية بإجراءات الإجلاء من المطار من دون الاكتراث لمصالح الدول الأوروبية الشريكة بعضوية “الناتو” الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عبَّر أكثر من مرة عن غضب الأوروبيين إزاء إدارة الولايات المتحدة ظهرها لحلفائها التقليديين، ومازالت دعواته لإنشاء قوة أوروبية مشتركة تتكرر في كل مناسبة، حيث اعتبر أن ما حدث في أفغانستان مؤخراً شكل “صحوة قاسية” بالنسبة للأوروبيين، وقال: “أثبتت الأحداث مرة أخرى هشاشتنا، ونحن بحاجة إلى تقييم لدور الاتحاد في أفغانستان لمعرفة الخلل الذي حصل خلال العشرين عاماً الماضية”.
وأوضح أن التطورات الأفغانية تجبر الأوروبيين على إجراء تفكير معمق يتجاوز مسألة تشكيل قوة عسكرية للتدخل السريع، مشدداً على أن المراجعة يجب أن تكون “سياسية، استراتيجية وربما ثقافية”.
في الواقع، فكرة تشكيل قوة أوروبية، أو جيش أوروبي موحد، ليست جديدة، وقد سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن طرحها قبل عامين، وأثار غضب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقتها، في حين لاقت دعوته تلك ترحيب وتأييد كلٌّ من ألمانيا، وبلجيكا، وبريطانيا، والدنمارك، وإستونيا، وهولندا، وإسبانيا، والبرتغال، والتشيك، واعتبروا أن هذه المبادرة من شأنها حماية أوروبا من التهديدات الخارجية، بما فيها الولايات المتحدة.
كذلك دعت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل حينذاك في خطاب أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ إلى إنشاء “جيش أوروبي حقيقي”، وذلك بعد الجدل الشديد الذي أثاره الاقتراح الفرنسي بين الرئيسين ترامب وماكرون، وقالت:”علينا وضع رؤية تتيح لنا أن نصل يوما ما إلى إنشاء جيش أوروبي حقيقي”، كما اقترحت ميركل “إنشاء مجلس أمن أوروبي مع رئاسة دولية يمكن من خلاله اتخاذ قرارات مهمة بشكل أسرع”.
جنوح الأوروبيين نحو تشكيل قوة مشتركة، واضح أن سببه شعور الأوروبيين بأن أميركا قد تتخلى عنهم في أي لحظة، وقد سبق لترامب أن هددهم بذلك أكثر من مرة، وفرض بحقهم سياسة استعلائية، ووضعهم في مرمى حربه التجارية إلى جانب الصين، والرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من غير المستبعد أن يستكمل تلك السياسية الاستعلائية بحقهم، رغم وعوده بتعزيز علاقات الود والاحترام بين الجانبين، ولكن ما حصل في أفغانستان عزز الشكوك الأوروبية تجاه الولايات المتحدة، ولكن رغم إصرار الأوروبيين على التفكير بإنشاء جيش خاص بهم، إلا أنهم غير قادرين على ترجمة هذه الفكرة إلى واقع ملموس على الأرض، بسبب خضوعهم المتزايد لسياسة الإملاءات الأميركية، وواشنطن تعارض بشدة هذه الفكرة وتحاربها، ولها أسبابها الاستعمارية، والمتمثلة في المقام الأول، بأن إنشاء مثل هذا الجيش يهدد النفوذ الأميركي داخل أوروبا، ولذلك نجد الولايات المتحدة تقاتل بشراسة لإبقاء القرار الأوروبي تابعا ومرتهناً لسياساتها الخارجية، كذلك فإن تشكيل مثل هذه القوة العسكرية من شأنه أن يعزز المخاوف الأميركية من إمكانية قيام نظام دولي متعدد الأقطاب بعيدا عن الهيمنة الأميركية، لاسيما في ظل صعود روسيا والصين كقوى فاعلة ومؤثرة على مسرح الأحداث الدولية.
الدول الأوروبية بإمكانها إنشاء قوة عسكرية وأمنية خاصة بها في حالة واحدة، عندما تمتلك الجرأة الكافية للانعتاق من التبعية لأميركا وسياساتها، وعندما تضع مصلحة شعوبها فوق المصلحة الأميركية، وبغير ذلك ستبقى تائهة في دائرة تبعيتها العمياء لأميركا، ولن تجد من يحميها ويدافع عنها في المستقبل