من الطبيعي أن تهتم المتاحف بالحصول على المقتنيات الأثرية، والقطع الفنية ذات القيمة العالية، والأخرى النادرة التي لا يتكرر مثيلها، كما المجوهرات، واللوحات الخالدة مع أسماء مَنْ رسموها، لتحافظ عليها من غبار الزمن كإرث، وسجل للتاريخ البشري بإبداعاته المتنوعة حديثها، وقديمها.
هذا هو حال كل متاحف العالم، وبعضها يشتهر بما يتميز به من خصوصية مقتنياته التي تجتذب إليه ألوف الزوار، والسياح، والمهتمين كل عام، كمتحف (اللوفر) في فرنسا، و(الميتروبوليتان) الأميركي أشهر متاحف العالم وأضخمها، والمتحف البريطاني، و(الأرميتاج) في روسيا، وكذلك المتحف المصري الكبير، على اختلاف نوعية الكنوز التي تعرضها تلك المتاحف، وغيرها كثير، إذ منها ما هو للآثار والحضارات، وغيرها للفنون عبر الأزمان، أو للتحف والمجوهرات الثمينة، أو لكل ما هو غريب، ونادر.
وصالات المزادات حالها كحال تلك المتاحف عندما تلهث لتستضيف كنوزاً في مزاداتها فتكتسب أروقتها وزناً فوق وزنها نظراً لقيمة ما تعرضه في سوق المزاد، ويُسلط عليها بسببه مزيداً من الأضواء فتصبح عالمية، وتذيع شهرتها، وتتضاعف الثقة بمكانتها.. لكنها مؤخراً لم تعد مقتصرة على النفائس من المعروضات التي تخوض بها جولاتها بل إنها ذهبت بعيداً عن مقتنيات عصر النهضة مثلاً، أو مجوهرات التاج البريطاني، أو الطوابع النادرة، وغيرها لتصل في مزاداتها إلى الأحذية.. أجل الأحذية، ولا يستغربن أحد ذلك.. بالطبع هي أحذية غالية الثمن، ولو أنها ليست مصنوعة من الذهب، ولا مرصعة بحبات الماس، وليست أكثر من أنها تحمل علامة تجارية شهيرة.. لكنها أصبحت تعتبر من نفائس عصرنا هذا الذي تغيرت فيه المفاهيم، وتبدلت حسبما تقتضي الأحوال.. فحذاء رياضي شهير، أو عدّاء ذائع الصيت يملك أعداداً لامتناهية من المعجبين، والمتابعين، أصبح في ميزان القيمة الرمزية يستحق أن يدخل لعبة التنافس على اقتنائه، ليفاخر مشتريه بأنه قد حصل عليه، ولو وصل ثمن المنافسة إلى مئات الألوف، أو الملايين من الدولارات، وربما بما قد يفوق أعداد مَنْ يُعجب، ومَنْ يُتابع.. فالحذاء ولو كان مهترئاً فقد غدا رمزاً من رموز المقتنيات الثمينة التي يتسابق بعض الأثرياء للفوز بها.
صحيح أننا نحتفظ بمقتنيات لمبدعين، ومشاهير سواء في الفن، أم في الأدب، أم في العلم، أم الصناعة، أم في مجالات كثيرة غيرها، لكن هذه المقتنيات التي تحفظ سواء في متاحف، أم في بيوت للفن، أم في بيت المبدع نفسه، ليست مجردة من قيمتها المعنوية التي تعرِّف بجوانب من شخصية صاحبها.. فمثلاً (البيانو) الذي كان يعزف عليه عبقري الموسيقا (بيتهوفن) هو ليس مجرد آلة موسيقية قد نشاهدها في بيت الفنان، أو في المتحف، بل إنها تحفة فنية ملهمة لكل مَنْ يعشق الموسيقا.. وكذلك هو عود (فريد الأطرش)، أو (عبد الوهاب)، أو منديل سيدة الغناء العربي (أم كلثوم)، أو القلم الذي كتب به (نجيب محفوظ) إرثه الأدبي.. كلها تحولت إلى رموزٍ تعبِّر عن إبداعات أصحابها عندما استخدموها، وقيمة تاريخية توثق للمرحلة الزمنية التي عاشوا فيها، لتلهم أجيالاً من بعدهم عندما يروها، ويطلعوا على قصتها مع صاحبها.
أما الرياضة فتلك لها قصة أخرى لا يختصرها حذاء.. وللحذاء وظيفة واحدة لا تحتمل الترميز.. وإنما العدَّاء الذي انتعله هو الذي أصبح رمزاً للفوز بسبب اجتهاده لا بسبب حذائه.. بل ماذا عن عراة الأقدام ممن لا يجدون ما يلبسونه في أقدامهم التي لا تقودهم بالطبع لا إلى أروقة المتاحف، ولا إلى صالات المزادات؟!.. بل ماذا أيضاً عن رياضيين لا يملكون أقداماً بل أطراف صناعية، ومع ذلك تفوقوا، واشتهروا؟.
خبر الحذاء هذا استوقفني وهو يسرق الأضواء في مزاده من المقتنيات التي ترتقي بالذوق العام لأتساءل بالتالي عن المقاييس الحديثة التي أصبحت تقاس بها الأشياء سواء من حيث قيمتها المادية، أو المعنوية.. تلك المقاييس التي تجبرنا على أن نخفض رؤوسنا لننظر نحو الأقدام!.
ربما أصبح منطق العصر مختلفاً عما سبقه مع تطوره السريع نحو كل ما هو غرائبي، وغير مألوف، ومع الثقافات الجديدة التي دخلت إلى كافة المجتمعات، وجعلت الناس جميعاً يتجهون نحو أنماط متقاربة في المعيشة، والمظهر، وكذلك في التفكير، وهم يتأثرون ببعضهم بعضاً.
فهل ما أصاب فن الغناء مثلاً، مع غيره من مختلف الفنون من تراجع في المحتوى، ومن سرقة الأضواء من القيِّم إلى الرخيص، ومن هبوط بالذوق العام بدل الارتقاء به سيصيب أيضاً صالات المزادات العالمية، أو المتاحف لتخصص في أجنحتها زوايا للأحذية سواء أكانت لمشاهير الرياضة، أم الفن، أم غيرهم؟.. عندئذ سأحزن عندما أرى أناساً بلا أقدام، أو أقداماً عارية ينظر أصحابها إلى أحذية مهترئة تباع بأثمانٍ عالية.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــــلاني