الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
استغربت مجيء “نعمان” طالباً يدي، وأنا الساخرة منه على الملأ، ومن كلّ المحاضرات السياسيّة، التي يُلقيها في مكتبِ أحد الفصائل الفلسطينيّة التي ينتسب إليها، وهو على علمٍ بذلك، إذ لا يحمل بين أوراقه إلا عناوين عريضة لنشراتِ الأخبار وبعض الصحف.
شبابُ المخيّم آنذاك ـ في الثمانينات ـ لم يكن لديهم الوقت الكافي لمتابعة التلفاز، كان همّهم العمل لتأمين نفقاتِ الجامعة، وفي المساء يتفرّغون للدراسة، والبعض الآخر التحق بركبِ الفدائيّة، بينما هو لم يؤهّله مجموعه في الثانوية العامة (98 ـ م)، بالدخول إلى الجامعة.
كم ضحكنا يوم صدور النتائج لإضافة (م) على مجموعه، إذ كانت تعني، “ناجح مساعدة” في ذاك الزمن.
قمنا بتأويلها إلى كلمة “مبروك”، وللغرابة، صدق تأويلنا، وأعلن تميّزه علينا!!..
بدأ يغالي في أناقته وتلميع حذائه، بينما الغبار يعلو وجوه أقرانه في المخيم، وثيابهم وأحذيتهم، وكلّ ما تصل إليه أيديهم، ومنهم أخي..!.
أخي الذي طرده الدكتور من المحاضرة، عندما وصل متأخراً إلى القاعة..
رفض أخي الخروج، وأصرّ على الحضور، لكنّ الدكتور واجههُ ساخراً:
“هذه كليّة الهندسة يا عمّو، وليست شارعاً، يبدو أنك مشرّد وتائه”!.
ردّ أخي: “أعرف أنها كليّة الهندسة، وأنا من طلابك”!!.
ضحك الدكتور باستخفافٍ، وقال: “اخرج قبل أن آمر بطردك”!.
كان الوجوم يرسم لواعج الأسى، بكلّ الألوان الدامعة في فضاءِ القاعة، ولا صوت يعلو فوق صوت الزفرات والعبرات، والتنهيدات الجارحة أديم نكبتنا الطويل..
وقفت إحدى زميلاته، وقالت غاضبة للدكتور:
“لا يا دكتور.. “عبد الحليم” زميلنا في الكليّة، ومن الأوائل فيها”.
هدأ غضب الدكتور عندما سمع اسمه، مشى باتجاهه بهدوءٍ ثقيل، كأنه يحمل آثام أمتنا العربية كلّها، وسأله:
“هل أنت حقاً، عبد الحليم؟!..
ردّ أخي: “نعم”..
قال الدكتور: “اعذرني يا بنيّ، فأنا لا أعرفك بشكلٍ شخصي، بل أعرف اسمك فقط، لأنك من الطلاب الأوائل في الكليّة، لكن لماذا أنت بهذا الهندام؟!..”
قال أخي: “لأنني أشتغل في ورشة بناء، وقد داهمني الوقت، ولم يسعفني إلا لغسلِ وجهي، ومسح شعري بالماء، ونسيت أن أبدّل ثيابي، لأصل في الوقت المحدّد للمحاضرة”..
اعتذر الدكتور منه، واعتذر من الطلاب عن متابعة المحاضرة لوقتٍ لاحق، والألم يستوطن وجهه، مع رجفانِ أوصاله!.
أصرّ “نعمان” يومها، على معرفة سبب رفضي له، قلت له ببساطة:
“لقد نسيتُ أن أكون أنثى”….!!
قال: “أنت أجمل أنثى، رغم عنادكِ وجلافتكِ”ّ.
قلت: “لكنّ طريقي عكس طريقك..”… قاطعني: “المقاومة طريقنا، وأنت تعرفين ذلك”!..
قلت: “أعرف ومتأكدة أن المقاومة طريق الشرفاء، بدليلِ استشهادِ رفاقنا، إلا أنت!.
قال: “استشهدوا لأنهم أغبياء، في معركة خطأ، فالتحرير لم يبدأ بعد”..
صرختُ بوجهه غاضبة: “تقول أغبياء يا تافه؟!.. أين ذكاؤك الحاد وأنت أعزل، ولاجئ، أم أن البندقيّة لا تتناسب مع أناقتك بلونها الداكن، أم تخاف أن تغتالك؟”..
خرج مكفهرّاً.. ولم يعد..
لا أعرف كم من السنواتِ مرّت، بعد تلك الحادثة المقيتة..
بدأ اسمه يتردّد في المخيّم، كظاهرةٍ محيّرة وغريبة الأطوار، مع سيارته الفاخرة، والبذخ، والترف، واللباس المفرط في التغيير والماركات العالميّة.. بعكسِ حياة غالبيّة الشباب، الذين أنهوا تحصيلهم الجامعي، وتناثروا للبحثِ عن عملٍ كريم، يصون ماء الوجه، ومنهم من ترك لنا حسرة، في مقبرة الشهداء!..
شغلتني الحياة بما هو أهمّ منه، ومقدّسات القلب والعطاء، خيرٌ وأبقى لصفحاتِ العمر القصير..
بعد استشهاد زوجي، بدأت رحلة الحقيقة تتكشّف، نحو واقعٍ ملبّدٍ بغيومٍ حبلى بالخيبات والتنازلات، التي تضمّنت إلغاء وجودنا في الهويّة والحياة !!.
حملتُ ثبوتيات الوفاة وبياناتي، لتصديقِ بعضها بشكلٍ نهائيّ .
شمس آب لم ترحمني، اللهب يتصاعد من الإسفلت، كأن الأرض تنفثُ براكينها في وجهي..
وصلتُ إلى مكتب المسؤول، والإعياء يشاطرني آخر قواي، كانت غرفة الانتظار باردة، كأن المكيّف بانتظاري، مِلتُ برأسي إلى الوراء، أسندته على الحائط، أغمضتُ عينيّ وأنا أحلم بغفوةٍ، أستردّ بها نشاطي وحيويّتي، وما كدت أفعل، وإذ بصوتِ السكرتيرة تناديني، لتأذن لي بالدخولِ لمقابلةِ المسؤول..
فتحتْ الباب وقالت: “تفضّلي يا خالة”.
ما أن خطوت، خطوة واحدة فقط، حتى تسمّرتُ مكاني، وإذ بي وجهاً لوجه مع الدكتور “نعمان”، كما هو محفورٌ على رقعةٍ خشبية فارهة على طاولته..
عندما رآني، نهض عن كرسيه، تقدّم نحوي، مدّ يده ليصافحني.. أبقيتُ يدي مكانها، وفي الأخرى أحمل ملف أوراقي، تلعثم وهو يعزّيني باستشهادِ زوجي، دعاني إلى الجلوس مرتبكاً، فرفضت..!.
لا أعرف كيف سيطرت على نفسي، ومنعتها من الغثيان والإقياء.. سمعته يقول: “تفضلي أنا بخدمتك”…
قلت: “لا أريد شيئاً، حتماً أخطأتُ العنوان.. على كلّ حالٍ، يليق بك منصب، مدير شؤون “دفن الأغبياء” منذ زمنٍ بعيد…
صفقتُ الباب خلفي، وخرجتُ مسرعة إلى الطريق، الذي تصفعه الشّمس.. كنتُ حرّة كالرياح، وأوراقي المتطايرة..!.
التاريخ: الثلاثاء14-9-2021
رقم العدد :1064