الكتابةُ عطر والرائحةُ كلماتٌ مبدعة

الملحق الثقافي:وارد بدر السالم *

يقول «جان كلود» الذي يتّخذ من أسماءِ الرسامين والأدباء والفنانين، أسماء لصناعاته العطرية، كـ «بودلير وديبوس وسيزان»: «عندما أكتب عطراً، فإن الرائحة هي الكلمات»، محاولاً بألمعيّةٍ شاعريّة، استبدال الوظيفة الأساسية للمفرداتِ بأخرى، رديفة لها في الجوهر الفنيّ، وعميقة في تجلياتها المختلفة، فالكتابة هي العطر، والرائحة هي الكلمات، في متواليةٍ رباعيّةٍ بارعة، يمكن اختصارها إلى: الكتابة = العطر، كثنائية شعريّةٍ برائحةٍ مبدعة، تتضمن قدراً عالياً من القيمة الإنسانية عالية المستوى، إلى فعلِ الكلمة بوصفها نتاجاً عبقرياً للحضارة الإنسانية، على مرِّ تاريخها الطويل، ولو لم يكن السيد «كلود» في دائرة الشهرة المبدعة، كصانعِ عطورٍ من طرازٍ رفيع، لم يكن ليرتقي إلى هذا التوصيف الراقي، الحافل بالخيال الفني البليغ.
في القرن السادس عشر، كتب «شكسبير» في مسرحية «ماكبث»: «لا يمكن لكلّ عطور الجزيرة العربية، أن تجمّل هذه اليد الصغيرة»، منطلقاً من معرفةٍ دقيقةٍ لمواصفاتِ الشرق، بوصفه مصدراً لهذه البضاعة التي غزت الغرب الأوروبي بأكثرِ من وسيلةٍ، وليس آخرها الحملات الصليبية التي اجتاحت الشرق وتعرّفت على مكوناته الجمالية والحضارية. ومن الثابت أن العرب بعد دخول الأندلس، أدخلوا ثقافة العطر إلى أوروبا عبر اسبانيا، بتصديرهم أنواع العطور كالعنبر والبلسم والبخور والكافور والورد الدمشقي.
في العصر الحديث، استقدم «باتريك زوسكيند» عبر روايته «العطر»، شخصية فريدة في بلاغتها الاجتماعية والنفسيّة، وهو «جان غرينوي»، الذي جعله يتجذب إلى الرائحة بمَلّكةٍ استثنائيّة خارقة، حيث تندغم حواسه كلّها، أو تتلاشى، وتنصهر كليّاً في حاسة واحدة هي الرائحة، ليختصر الحياة إلى رحيقٍ هو عطر الصبايا الفتيّات، في فذلكةٍ فنيّة غاية في الدقّة والإتقان، والمعرفة النفسيّة للحالة البشريّة، وهو يحفر في الاستثناء لا القاعدة، وفي المتخيّل لا الواقعي، وصولاً إلى تأكيداتٍ مضمرة، بأن الجسد، كمنظومة إنسانيّة فعالة، قادرٌ على فرز حاسّته الاستثنائيّة، والتحكّم بها، وقيادتها إلى السرّي من الحياة، والغامض أيضاً والمجهول في الحالاتِ كلّها.
ثمّة فيلم أميركي اسمه «شذى امرأة» ارتكز في بنائه العاطفي على الرائحة، حيث يفتقد رجلٌ امرأة ضاعت منه في زحام الحياة، لكنه يستدلّ عليها في نهاية الأمر، من عطرٍ خاص كانت تستخدمه في حياتها.
تركيب العطر وتركيب الرواية
كثيرٌ من الأعمال الأدبيّة، استحوذت على ثيماتها «الرائحة» كموضوعة أثيرة لدى المبدعين، لما فيها من رمزيّةٍ وغموض وتشويق، في تتبّع الأثر غير المرئيّ للنصِّ الأدبيّ، فالرائحة، عطراً شذياً كانت أم نتانة ونفايات، لابد أن تضفي على النصِّ الأدبيّ، لوناً فنياً مغايراً لما هو دارج في السرديات بشكلٍ عام، حتى أن رواية «تلك الرائحة» لـ «صنع الله إبراهيم»، استعارت عنوانها من هذا التكثيف اللامرئي، مع أنها تُعدُّ من أدب السجون.. وموضوعة العطور تثير بي شيئاً من الأسئلة النقديّة في توصيفِ التلاقي الممكن، بين صناعتين تختلفان في المواد ومنافذ التسويق، ولكنهما تلتقيان في الهدف الفنيّ والمسعى الجماليّ المشترك؛ فهل يمكن لنا أن نوجِدْ تقارباً فنياً موضوعياً بين تركيب العطر وتركيب الرواية؟؟..
العطر نتاج مئات الأزهار، المختلفة المنشأ والروائح التي تدخل في مراحل كيميائية معقدة، حتى يُستخلص النوع العطريّ الذي يُستهلك في نهاية الأمر، أما الرواية فهي مخاض عشراتِ ومئات القراءات والتجارب الإنسانيّة المعقّدة، ولعلّ الرواية المعرفية المنتشرة في العالم في طبعتها الأخيرة، تمكّنت من أن تتمرّد على جهوزيةِ القوالب الروائيّة المتداولة، فَنَحَتْ لأن تجتذب إليها كلّ العلوم والمعارف، من تاريخ وجغرافيا وفلسفة ودين وتراث وموسيقى وتشكيل وسينما، لتتوصل إلى خلاصاتٍ راقية من هذا الطيف العطري الشائك، وتنجو من التقليد الدارج للكتابة الروائية، و»شفرة دافنشي» تصلح نموذجاً تطبيقياً للحقلِ الروائيّ الجديد، الذي مرّ بأنابيبِ اختبارٍ ليست هيّنة في نهاية الأمر.
شعريّة العطور
هل صناعة العطر فنٌّ وإبداع، أم خبرة متراكمة، أم خيالٌ جامح؟!!.
نحتاج إلى أمثلة واقعيّة، لمقاربةِ النتائج الممكنة في وعي الإجابة، أو الاستخدامات الفطريّة لنوعٍ عطريّ معيّن، فـ «سارة دلفيل» التي تعمل في مشروع المعهد العالي للعطور تقول: «نحن نخلق صورة..»، وأستاذتها «ماريانا يونغ» تقول: «نعمل لتلحينِ موسيقى، وخلق هارمونيّة كاملة..».. وإحدى محاكم الاستئناف الفرنسيّة، أوردت نصّاً قضائيّاً جاء فيه: «يمكن اعتبار العطر مثل نتاج البحث العقلي للموسيقى، وبالتالي فهو عملٌ ذهنيّ..»..
تطول الأمثلة الفنيّة، في وصفِ صناعة العطور، من كونها عملاً إبداعيّاً خالصاً، فخلق الصورة لدى «دلفيل» هو خلقٌ شعريّ لا غبار عليه، وخلق هارمونيّة موسيقيّة لدى «يونغ» هو خلقٌ ذهني آخر، قريب من الخيال الشعريّ، والمحكمة الفرنسيّة تألّقت في اعتبار الصناعة العطريّة، كنتاج البحث العقلي للموسيقى، وكأن قضاة هذه المحكمة، هم جوقة من الشّعراء..
إذاً، ثمّة وعيّ متراكم لدى صنّاع العطور، غير مفهوم للعامة والنخبة معاً، وهو وعيٌّ تشكيليّ، صوري، شعريّ، موسيقيّ، نغميّ، غامض، يتعامل مع الطبيعة، والزهور التي هي أرقّ موجوداتها، وبطريقةٍ خياليّة تنمُّ عن إحساسٍ رهيف بالحياة والكون، لتكوين شعريّة العطور.
أباطرة وأكاسرة ورؤساء ووزراء، حفل التاريخ بأسمائهم، حوّلوا حياتهم وقصورهم ورياشهم إلى بذخٍ من روائح عاطرة، تكتظُّ بالأزهار والورد وأمطار العطور، ومنذ أن وعى الإنسان حضوره اليومي في مسرح الحياة، وهو يبحث عن نطفةِ الجمال في مكونات الطبيعة، وقد يقودنا البحث إلى خمسة آلاف سنة، حيث ترافق استعمال العطر مع نشوء المعابد وتعدد الآلهة بالمعتقدات القديمة، فالفراعنة المصريون كانوا يحرقون صمغ الراتينج كقرابين للإله (رع) وقد استخدموا الياسمين واللوتس والّلبان والزعتر كمراهم ودهون، بل استخدموا العجائن المعطرة التي تساعد المرضى على تجديد نشاطاتهم النفسية، كما استخدموا العطور في تحنيط الموتى.
ولم تكن فكرة المعابد طارئة على الوجود الإنساني القديم، فهي البوصلة التي ظلّت تشدّه إلى مختلف الظواهر الحياتية، وبالتالي انصبّ اهتمامه على تمجيد معتقداته الروحية لإشباع غريزة العبادة الفطرية لديه، للتقرب من ( الآلهة) عبر أول خطٍّ مباشر هو الرائحة، من خلال رائحة العطور التي تعطّر أجواء المعابد على مدار الساعة، كأوّل مظهرٍ غير مادي يبتكره الإنسان القديم، لتعميد طقوسه وترسيخ معتقداته الدينية، وظل الفراعنة يتمسكون بهذه المعتقدات، متضامنين مع واقعٍ حياتيّ حتّم عليهم التمسك برموزهم الدينية، وما يستخلصونه من الطبيعة من مظاهر وإشارات غامضة عليهم.
وربما كانت زهرة اللوتس هي النوع المفضل الذي استحوذ على رغباتهم بجمالياتٍ لا حصر لها، فاستودعوا رحيقها في أوعية فخارية ودفنوها في حجراتهم، ورسموها على جدران منازلهم ومعابدهم.
هذا الإنسان الأول الذي أنتجته الحياة، تعامل بحسٍّ جماليّ خياليّ غامض مع الطبيعة، منقاداً خلف شهوة الخلود العَطِر وسحره اللا مرئي، مشدوداً إلى قنوات أسطورية دينية، فحاجة البقاء تدفعه إلى الابتكار وهي حاجة ارتبطت بتشخيصه لمكونات الطبيعة ومكنوناتها السرية.
ولعل «الرائحة» هي إحدى هذه المكنونات السحرية التي قيدته في الحياة كوجودٍ، والموت كزوالٍ جسدي، لذلك كان تحنيط الموتى وتعطيرهم برحيق اللوتس والراتنج وأنواع مختلفة من الزهور والأعشاب والأوراق هو لإبقاء نبض (الحياة) قائماً في الموت! فالإنسان القديم يتماهى مع الحياة بجديّةٍ، ولا يعد الموت نهاية ثابتة، إنما نزول إلى عالمٍ سفليٍّ آخر.
* كاتب وأديب عراقي

التاريخ: الثلاثاء28-9-2021

رقم العدد :1065

 

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات