الملحق الثقافي:وجيه حسن:
الإسراف بوجهٍ عام، أمرٌ غير محمودِ السّيرة والعواقب والتصرّف، حتى لو كان في مضمارِ المحبّة، أو في موضوع التعلّق والتشوّق والإيثار، وصرف المال…
والعربي القديم، الذي أسرف في الوقوفِ على الأطلال البائِدة حدّ الثّمالة، لم يحصد من ذلك كلّه سوى الخيبة والمرارة والخذلان، فهو الذي بكى على أثافي الخيام «هي الحجارة السّود، التي كان العربي يضع قِدْرَ الطعام عليها»، متذكّراً أصداء الحبيبة وذكرياته معها، ذارفاً على هاتِه الأطلال طُنّاً أو أكثر من الدّموع والآهات والأشعار..
اليوم، ثمّة شعراء وأدباء لايزالون أوفياء للماضي بما له وما عليه، فهم يرْثون زمناً جميلاً وارِفاً حسب زعمهم، ويلعنون سرّاً وعلانية الحاضرَ الباردَ المُفرَغ من أيّ جوهر أو ثِيمة، بعدما ابتعد بعضٌ كثير أو قليل من أناسِيّ اليوم، عن تفعيل منظومة المبادئِ والقيم وتطبيقها، وعن وضعها موضع التنفيذ في مجرى الحياة بعامّة..
السؤال في هذا الصّدد مُفادُه: أيّ حنين إلى الماضي، هذا الذي يعتمل في قلوب البعض وفي صدورهم وفي أعماقهم؟ وأيّ حنين هذا الذي لا يقيم أيَّ وزن للقابلِ من الأيام والسّنين والتوقّعات؟..
الحقّ يُقال: إنّ العربي من ماءِ الوطن إلى مائه، قد ضاق ذرْعاً بعصره الرّاهن البائِس البَئِيس، لما فيه من هنّات وسقطات ونكسات وارْتكاسات، وقد أفرغ حمولة شوقه كلّها على تخوم ماضيه، سواء كان هذا الماضي قريباً أو بعيداً.. وفي الوقت الذي تزدهر فيه دراسات استراتيجيّة وغير استراتيجيّة، وهي تتحدث عن أحوال وظروف الأجيال المقبلة في العالَم المعاصِر المُتقدّم، فإنّنا نجد نقيضَ ذلك في وطننا العربي المُتخلّف، لأنّه مُلتاع مقهور، عيناه حمرَاوَان تدمعان على زمنٍ زاهرٍ مضى، وهيهات هيهات أنْ يعود!
إنّ عبارة «رحم الله أيّام زمان» ما نفتأ طُرّاً نسمعها، بل نردّدها في حواراتنا وجلساتنا ولقاءاتنا بشكلٍ متكرّر، لكأنّ قائلها، بشعورٍ منه أو بلا شعور، يرجو في أعماقه أن يعود ذلك الزّمن الجميل، الذي كانت القلوب فيه مُتواشِجة مُتعانِقة قريبة صافية بيضاء، وكان «الاقتصاد الأدبي» في ذاك الزّمن بكلّ حسناته وثِيماته ومَغازِيه، متفوّقاً على «الاقتصاد السياسي»، الذي عنه وبسبب سياسته العَرْجاء، تكثر المواجع والصّرخات والآهات، ويتّسع فيه وجه القبح الماديّ الضّاغط، وفيه أعني «الاقتصاد..»، يكثر الاستغلال والاستثمار والاستبداد والسّلب والنّهب والابتزاز والفوضى والكذب والتهوّر والسّطوة، كما تكثر فيه الجرائم بكلّ صنوف بشاعاتها، وقباحات مرتكبيها..
من هنا يمكن القول بلا تهيُّب: لكنّ التعلّق الشّديد بالماضي، هو في الحقيقة مُقدّمة لتحويل السياسة «والثقافة معها» إلى مجرّد فولكلور، تماماً كالأواني أو التّحف، التي تضعها ستّ البيت في هذه الزاوية أو تلك من المنزل، لكنّها في الأساس لا تصلح للاستعمال اليومي..
واليوم وراهناً، بعيداً عن التغنّي بأمجاد الآباء والأجداد، ولشدّة الإسراف في الكسل الذّهني، فقد انشغل بعض مقاومي التّطبيع بالمُطبّعين الجُدُد، من أهل العقال العربي المُطرّز بلون الخزي والعار والانحدار، بل أوشك هؤلاء، ومَنْ أيّدهم وعاضدهم من أصحاب الكسل الذّهني على نسيان جذْر المسألة، وهو العدوّ الصهيوني البغيض ذاته، موضوع المناقشات والحوارات والسّجالات والمُداولات..
واليوم وراهناً، لماذا لا نعترف جهاراً نهاراً، ولو باتّباع نقد ذاتي بيّنٍ وصريح، يمهّد لمستقبل مُحرّر من المُراوَغة والالتباس والتّدليس والتّعمية، بأنّ قرون التخلّف والتبعيّة والضّياع – وما أفرزه معجم العَثْمَنَة «تَرِكَة الرّجل المريض» من جهل وأميّة وتخلّف وتَنْبلة سياسية مقيتة – قد أسهموا إلى حدّ كبير في تغريب الإنسان العربي عن ذاته، عن حاضره وماضيه، كما أدّوا في الوقت عينه إلى إقصائه عن مجاله الحيوي المأمول..
إنّ «سوريانا» المُحاطَة اليوم بالأعداء الأشقّاء والأشْقياء من كلّ الجهات، لم تُغمِد سيفها البتّار بعد، لكنها لا تزال تغنّي بفرح الأيام المقبلة، تتطلّع إلى وجه المستقبل بعين التفاؤل والرّضا والطمأنينة، ولا تتطلّع إلى الوراء، لعلّ النّجدة تأتي من هناك، من قبرٍ أو طللٍ أو كتابٍ أو شقيق، لأنّها عَرَفَت كيف اكتوت من بعض الأشقّاء الأشْقياء، فقد غدروا بها أيّما غدر، في هذه الحرب الظالمة الغشُوم، التي صار عمرها البائس اليوم أكثر من عشر سنوات، والتي دهمتنا غِلة في عقر بيوتنا، ومهاجع أطفالنا، وفي الصّميم ..
أخيراً، ألم يقل المسرحي السوري العظيم المَرْحوم «سعد الله ونوس» يوماً: «إنّنا محكُومون بالأمل»؟!
والمثل العربي يقول: «لولا الأمل، ضاعَ العمل»..
التاريخ: الثلاثاء28-9-2021
رقم العدد :1065