وزارة الثقافة السورية والدور الرائد في الترجمة

الثورة أون لاين – د. ثائر زين الدين:

قد لا أضيفُ جديداً لو قلتُ: إن اللغاتِ هي أبوابُ ثقافاتِ الأمم، والترجمةُ هي مفاتيح تلك الأبواب!
وقد أدركتِ الشعوبُ ذلك منذُ القِدم، فكانت في مراحِلِ نهوضها وانطلاقها لبناء حضارتها الخاصة تُترجمُ معارفَ الأمم وعلومَها وآدابَها، وتجعلها أساساً للبناءِ عليّه وتقديم إضافاتها الخاصة، وهذا ما فعلناه نحن العرب ذات يوم: ألم يجمعْ خالد بن يزيد بن معاوية – حكيمُ آل مروان – جماعةً من فلاسفةِ اليونان ممّن نزلوا مِصرَ وتفصّحوا بالعربيّة وجعلهم ينقلونَ الكُتبَ في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، ثُمَّ نُقِلَ الديوان في العراقِ أيامَ الحجاج من الفارسيّة إلى العربيّة وفعلَ ذلك صالحُ بن عبد الرحمن، وفي الشام نُقِلَ ديوان الدولة زمن هشام بن عبد الملك على يد أبي ثابت سليمان بن سعد من الروميّةِ إلى العربية، لكن الوثبة العظيمة في هذا المجال جاءت زمن العباسيين ولاسيّما في عصر المأمون .وقد صنّفها بعضهم في ثلاثةِ أدوار؛ يبدأُ الأوّل منها من خلافةِ المنصور(136 هـ) إلى وفاة الرشيد (193 هـ ) ونهض بها نخبة من المترجمين الكبار منهم: يحيى بن البطريق، جورجيس بن جبرائيل ، عبد الله بن المقفّع، يوحنّا بن ماسويه، سَلاّم الأبرش، باسيل مطران.
والدور الثاني من ولاية المأمون 198 هـ إلى سنة 300 هـ ونهضت بجهد الترجمة الطبقة الثانيّة من المترجمين ومن أبرزهم: يوحنّا بن البطريق، الحجّاج بن مطر، قسطا بن لوقا البعلبكيّ، عبد المسيح بن ناعمة الحمصي، حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وابنه إسحاق بن حنين، ثابت بن قُرَّة الصابي، حُبيش بن الحسن ( حُبيش الأعسم )
والدور الثالث من سنة 300 هـ إلى منتصف القرن الرابع، ومن مترجمي هذا الدور: متّى بن يونس، سنان بن ثابت بن قرّة، يحيى بن عديّ، أبو علي بن زرعة، هلال بن هلال الحمصي، عيسى بن سهربخت.
والحقيقة أن هؤلاء المترجمين العظماء نقلوا أهم كتبِ الأممِ الأخرى عن لغاتٍ كثيرة: اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة والقبطيّة واللاتينيّة والنبطيَّة والسريانيّة والعبرانيّة؛ فأصبحت كتبُ أفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وأرخميدس وأبلونيوس ومنلاوس وبطليموس القلوذي وغيرهِم من علماء الأمم الأخرى تُقرأ بالعربيّة، فارتقت البلاد علميّاً ومدنيّاً وتجاوزت حالة ممالك وملوك أوربا كثيراً، حتى قال أحد المستشرقين:” بينما كان شارلمان يتعلم القراءة مكبّاً على مطالعة رسائله مع أترابه في مدرسة القصر كان المأمون يعالج الفلسفة ومناقشة أقضيتها هناك في بغداد” ولقد كان لجهود الترجمة المذكورة الدور الأكبر في إغناء اللغة العربية وزيادة الثروة اللفظيّة ولاسيما في مجال العلوم والطب والهندسة؛ فهل كان لدى العرب أيام جاهليتهم أو صدر الإسلام ذلك التراث العظيم من الألفاظ الطبّية وأسماء الأدوية والأمراض والجراحة والمصطلحات الفلسفيّة والهندسيّة والرياضيّة؟ ونحن حتى اليوم مدينون لجهد المترجمين في العصر العبّاسي بعشراتِ المفردات والاشتقاقات مثل: تشريح، نبض، صيدليّة هضم، مبرّدات، قابض، مسهّل، تشنّج، ذات الرئة، بنج، هيولى، قاموس، قانون، وغيرها المئات.
وأمام هذه الصورة المشرقة لحال الترجمة في مرحلة من مراحل حضارتنا تفجؤنا بشدّة الصورة الحاليّة؛ فقد أشارَ تقرير التنميّة البشريّة لعام 2003 إلى حالة الركود في الترجمةِ إلى العربية، وأكد أن ترجمات العرب لم تكن عام 1970 تتجاوز /175/ عنواناً في السنة وبلغت على مشارف القرن الحالي /330/ عنواناً، وهذا الرقم لا يتعدّى ربعَ ما تترجمُه دولة صغيرة كاليونان، وهو يعني أن كتاباً واحداً يترجمُ لكل مليون عربي في حين أن النسبة في إسبانيا مثلاً تبلغ 920 كتاباً لكل مليون.
وقد جاء أيضاً في إحصائيات وزارة الثقافة المغربيّة أن مغاربة القرن الواحد والعشرين يقرؤون كتابين ونصف في السنة وأن واحداً من أصل 10 من المواطنين المتعلمين لا يقرؤون إطلاقاً. وحتى لا نتابع عرض الأرقام المخيّبة للآمال نوجز فنقول إننا بحاجة ماسة لوضع خطّة إستراتيجية للنهوض بالترجمة والنقل، ويجب أن تضطلع بذلك مؤسسات ثقافية كبرى يؤمَّنُ لها الدعم المادي المطلوب، بحيث ننتقل من التعامل مع الترجمة كهواية فرديّة إلى التعامل معها كحرفةٍ وبتكليفٍ من تلكَ المؤسسات. ويجب أن يتم التنسيق ما بين الدول العربيّة كافةً كي تتحمل مسؤولياتها في ذلك .. فلو قامت كل دولة بترجمة ألف كتاب في العام (وهذا ما حاول المجلس القومي في مصر تطبيقَه) لكان لدينا مالا يقل عن /22000/ كتاب في السنة.
أعلنت الهيئة العامة السوريّة للكتاب منذ فترةٍ قريبة إطلاق المشروع الوطني للترجمة وشكّلت لجاناً مختصة لذلك وتضع خطة طموح في كل عام نتمنى أن يؤازرَها فيها اتحادُ الكتاب ودورُ النشر الخاصة وغيرُها وأن تُرصَد لها الموازنات اللازمة؛ عسى أن تكون حجر الأساس في نهضةٍ قادمةٍ تذكرنا بدار الحكمةِ زمن المأمون!

قليلاً ما نجدُ إحصائيات دقيقة تبيّن لنا أعدادَ الكتب التي ترجمناها إلى العربية من لغات العالم، أو ما تُرِجمَ من العربيّة إلى مختلف اللغات؛ فلو أردنا الآن أن نعرف ما نشرته مثلاً دور النشر السوريّة مِنَ الأعمال المترجمة إلى العربية في هذهِ السنةِ أو تلك، وخلال العقد الماضي أو الذي سبقه، فلن نتمكّن من ذلك بالدقّةِ المطلوبة وهي مسألة يُرجَعُ بها عادةً إلى المكتبات الوطنيّة ومعاهد الأبحاث والمدارس المُختصّة وما شابه.
ومن الجهودِ المهمّةِ في هذا المجال الثبت الذي بدأت تُصدرُهُ اليونيسكو منذ نحو أربعين سنة، بحيث تطرحُ كلّ عام ما تمكّن باحثوها من جمعِهِ في بحوثٍ بيبلوغرافيّة تضمُّ اسمَ الكاتب، وعنوانَ كتابِهِ، ولغتِهِ، والبلد الذي صدر عنه، واسم المترجم وسنة الإصدار، بل سيجدُ الباحث إحصاءً لعدد الترجمات التي توفّرت لكاتبٍ معيّن وباللغاتِ الموجودة، ومن ذلك مثلاً أن شكسبير حظيَ حتى عام 2019 بـ 4296 ترجمة في العالم، وجول فيرن 4751، ودوستويفسكي 2342 وماركس 1646 وماركيز 1396 وما إلى ذلك، ويرى د. جمال شحيّد أن هذا الثبت “يُعدُّ كنزاً ثميناً للمترجمين والمهتمين بتطوّر الترجمة؛ فمن خلالِ تصفّحِهِ نلاحِظُ أن مجموعَ الترجمات قد تضاعف بنسبة 50% في جميع لغات العالم بين 1980 و 2000″، ومن الجهود المهمّة في هذا المجال كتابُ “ترجمة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في العالم العربي المعاصر” الذي وضعَهُ نخبة من الباحثين بإشراف الأستاذ ريشار جاكمون وصدرَ في الدار البيضاء عام 2007. وقد أشار بحثُ الدكتور المغربي عبد السلام شدّادي إلى أن “الترجمة لا يمكن أن تنفصل عن السياق الحضاري العالمي والوطني والإقليمي. وتوقّفَ عند التعليم والبحث العلمي في العالم العربي، وقالَ إنَّ العرب خلال الخمسين سنة الأخيرة ترجموا إلى العربيّة نحو 10،000 كتاب، منها 4000 بدعمٍ من مؤسساتٍ أجنبيّة، أي ما يُعادل 200 كتاب سنويّاً لـ 420 مليون عربي عام 2007، أي ما يُعادل كتاباً واحداً لكل 2،100000 ورأى أن العالمَ – عموماً – ترجمَ 80 ألف كتاب عام 2007، أي بمعدّل كتاب واحد لكل 80 ألف شخص. وأكّدَ أن المجتمع الدولي هو مجتمع معرفة وتؤدي فيه الترجمةُ دوراً حاسماً” .
يرى ريشار جاكمون أن برامج الترجمة الأجنبيّة أدّت دوراً كبيراً في تنشيط الترجمة في بعض البلاد العربيّة ومنها “منشورات فرانكلين 1950 – 1978″، “وهو برنامج أمريكي أُنشئَ في القاهرة وبعض عواصم العالم الثالث، لصدّ التوسع السوفييتي في العالم. وأصدرت دار فرانكلين القاهريّة ما بين 1000 إلى 1300 عنوان، وخَلَفهُ في القاهرة منتصف عقد 1980 (مكتب الكتاب) التابع للسفارة الأمريكيّة في القاهرة” وقد أنجزَ هذا المكتب ترجمة 150 عنواناً بين عامي (1990 -2005)، كما يشير الباحثُ إلى أنّ المركز الوطني للكتاب في فرنسا دعَمَ مشاريع ترجميّة في بعض الأقطار العربيّة؛ فترجمت دور النشر اللبنانيّة المدعومة 180 كتاباً، والسوريّة 40، والمغربيّة 80 والتونسية 80، وحظيت الجزائر بمعاملة فرنسية خاصة تناولت 250 عنواناً.
ولا ينسى جاكمون المشاريع العربيّة للترجمة: “وأوّلها مشروع “ألف كتاب” – 1955 / 1968، الذي أطلقه د.طه حسين عام 1955، وثانيها مشروع “الألف الثانية” بمبادرة من د. جابر عصفور واحتُفِلَ بإنجازها في شباط 2006. ولا ينسى الباحثُ سورية التي يراها تحتل المركز الثاني في الوطن العربي بحجم الترجمات، ويذكر أن وزارة الثقافة السوريّة بدفعٍ من الأستاذ أنطون مقدسي، والسيدة الوزيرة نجاح العطّار نشرت ترجمة 1400 كتاب ما بين عامي 1960 و 2004 (ونصفها عن الفرنسيّة)، وهنا كان من الممكن أن ننتبه إلى أن هذا الرقم ليس كبيراً في نحو 44 عاماً. وهنا لا بُدّ لي شخصيّاً أن أضيف أننا قمنا بإحصاء جديد في الهيئة العامة السوريّة للكتاب ووجدنا أن عدد الكتب المترجمة المنشورة من قبل وزارة الثقافة بما فيها الفترة التي أُحدثت فيها الهيئة العامة السورية للكتاب (2006 – 2021) قد بلغت حتى اللحظة 2046 كتاباً، يُضاف إليها ما تُرجِمَ للأطفال والفتيان في فترة عمل الهيئة وهو يبلغ 201 كتاباً وكُتيّباً، فيصبح المجموعُ 2247 كتاباً ويتابعُ المشروعُ الوطني للترجمة الذي أطلقتهُ هيئة الكتاب عام 2017 طرح الترجمات المهمّة من مختلف لغات العالم، ولكننا لا نعلم عدد الكتب المُترجمة التي صدرت عن دور النشر الخاصة خلال هذا الزمن في سورية، بالتأكيد هي أرقام لا ترضي طموحنا ولكنّها تؤكّد أننا نتابعُ الحياةَ بالرغم من كل ما مرَّ علينا وكل ما عانيناه…
وأُأَكّد على ضرورة القيام بإحصائيات دقيقة، ولا بُدّ لجهاتٍ رسميّةٍ بالدرجة الأولى وخاصة بالدرجة الثانية أن تضطلعَ بهذا الدور المهمّ.

ولا بد من وضع التوصيات التالية بين يدي السيدة وزيرة الثقافة لدعم المشروع الوطني للترجمة الذي يطرح ثماره منذ خمسة أعوام وهي تتمثّل فيما يلي:
1- العمل في مطلع العام القادم على استصدار قرار من السيد رئيس مجلس الوزراء لرفع تعرفة الترجمة في القطر العربي السوري بما يُلاقي الغلاء الهائل الذي أصاب مختلف وجوه الحياة.
2- العمل على حل إشكال حقوق دور النشر الأجنبيّة بوضع آليات قانونيّة معيّنة لشراء الحقوق بشكل نظامي، ما عدا البلدان التي تستطيع الهيئة العامة السورية للكتاب أن تحقّق ذلك مجاناً مثل (روسيا – بلاروسيا – إيران…).
3- تأكيد ما طرحته الهيئة العامة السورية للكتاب منذ بداية المشروع الوطني للترجمة من ضرورة نهوض دور النشر الخاصّة واتحاد الكتاب العرب والجامعات بدورها في إغناء المشروع الوطني للترجمة، ونقترح مبدئياً أن تقوم وزارة الثقافة عبر اتحاد الناشرين السوريين بإلزام كل دار نشر سورية بترجمة نحو خمسة كتب في العام الواحد تزوّد الهيئة بعناوينها وتعمل الوزارة على المساعدة في اقتنائها لصالح مراكزها الثقافيّة لتغطية جزء من نفقاتها.
4- يُرجى من السيد رئيس اتحاد الناشرين السوريين موافاة الهيئة العامة السورية للكتاب بكشوف شاملة بما أنجزته دور النشر السورية الخاصة، رغبةً في ضرورة التوثيق الدقيق في مسألة الترجمة، حتى ولو تطلّب الأمر ستة أشهر أو عاما من تاريخه.

آخر الأخبار
سوريا تشارك في الجلسة المستأنفة للدورة الثانية لجمعية الأمم المتحدة  أزمة السكن وارتفاع الإيجارات تجهض أحلام العودة للوطن  وزير الإعلام: تجاوزنا مرحلة بناء الثقة وندخل مرحلة جديدة قبوات لـ"أسوشيتد برس": رفع العقوبات بداية لمرحلة التنفيذ ومحاربة الفساد  وزير الدفاع: لوائح انضباط جديدة لترسيخ جيش وطني يحمي الشعب 200 منشأة حرفية لمواد البناء في حماة تدخل سوق العمل 12 سيارة إطفاء مع تجهيزاتها لمواجهة الحرائق بالغاب دعم مركز نقل الدم بحماة بالطاقة الشمسية حماس الأتراك لدعم الإعمار في بيلديكس 2025 آمال بتسهيلات مالية وبنكية أصحاب شركات يعودون لإعمار وطنهم صحف عبرية: رفع العلم الأمريكي في دمشق "رسالة قاسية لإسرائيل سوريا ترحب بقرار الحكومة اليابانية برفع العقوبات عن أربعة مصارف وطينة اتفاقيات الكهرباء تنقل سوريا إلى النور.. خبراء لـ"الثورة": ثمرة من الانفتاح الدولي وصمام أمان معيشة ... ترميم مركز الدفاع المدني في بصرى الشام تنفيذ أعمال صيانة وإصلاح لشبكات المياه بالقنيطرة بيئة مدرسية محفزة لمستقبل أجيالنا.. تأهيل ثلاث مدارس في القنيطرة بمشاركة محافظَي اللاذقية وإدلب.. تدشين دار رعاية المرضى في ولاية أكسراي التركية عائلات تتحضّر للعودة إلى قراها في ريف إدلب بعد انتهاء الامتحانات الانتقالية جودة الألواح الشمسية.. بين تنظيم الاستيراد وعملية الاختبارات "نسيج الأمل" نقطة انطلاق لتعافي الصناعة السورية