افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير – علي نصر الله:
في المَشهد السياسي الدولي والإقليمي، ثمّة مُتغيرات كُبرى حَصلت، تَحصل، بحصولها وبحَصيلتها تُوحي ربما بأنّ أطرافاً دولية تَغيرت أو تتغير في نظرتها، في أدائها، في سلة أهدافها، وبالتالي هذا بدوره يُوحي بأنّ هذه الأطراف الدولية “أميركا أُنموذجاً” تَقبل اليوم ما كانت تَرفضه أمس، فكم يُقارب ذلك الواقع، هل حصلَ فعلاً، كم هو حقيقي، وهل يُمكن الوثوق به والركون له؟.
التجارب السياسية المُتكررة تؤكد أن السياسة، مُمارستها، مَساراتها، تَكتيكاتها، لم يَكن فيها مرّة ما يُفيد بالرفض القاطع لأيّ أمر أو تفصيل، وكذلك لا تتضمن ما يُفيد بمنح القبول لأي أمر أو تفصيل على نحو أعمى وبالمُطلق.
لفهم السياسات الأميركية والغربية القائمة ولإيجاد مُسوغاتها، كثيرون – هنا – يَتحدثون عن البراغماتية كمنهج وسلوك يَحكم هذه السياسات في مُحاكاة أطماعها بعيداً عن القيم، بل بما يَتعارض معها طالما تتحقق الغايات التي تُلاحقها، وطالما أنّ ذلك يُخفف العواقب والمُنعكسات في الطريق إلى تحقيق الأهداف عَملياً.
تَشكلت الحكومة اللبنانية مُؤخراً من بعد تَعثر طال واستطال، وَصلت المحروقات الإيرانية إلى اللبنانيين من دون مُحاولة قرصنة أو اعتراض، الكهرباء والغاز في طريقهما إلى لبنان من مصر والأردن عبر الأراضي السورية.
درعا تَشهد تسويات تَعطلت طويلاً بفعل فاعل، وغداً ستشهد إدلب والمنطقة الشرقية حركة نَوعية بمُوجبها ستكون الأوضاع والحالة مُغايرة تماماً لما هي عليه ولما كان يَتهيأ للمُحتلين – أميركياً، تركياً، ميليشاوياً – أنه بُنية قويّة لمخطط استهلكَ أصحابه والشركاء وقتاً طويلاً بوضعه واعتماده.
فيينا تَشهد مُفاوضات شاقة حول الملف النووي الإيراني قد تُعيد واشنطن للاتفاق الذي نَقضته وانسحبت منه، وربما لن يَحصل ذلك ولا حتى احتمالات إنتاج اتفاق جديد، غير أنّ هذا لم يَمنع سعي واشنطن ومحاولتها من بعد حماقة الخروج من اتفاق 2015 والذهاب آنذاك للغة تصعيدية تَرتبَ عليها الكثير وما زالت تُرتب أعباء غير مَسبوقة على مجموعة 5 + 1 وعلى الوضع الدولي والمنطقة.
الأمثلة مُتعددة ولا مجال يَتسع لسردها من “أوكوس” واستهدافاته، إلى أربيل وما شَهدته مؤخراً، وصولاً إلى أحداث أذربيجان ومُحيطها، هذه الأمثلة وسواها مما يَجري حول العالم، بمُجملها تُمثل الأمر الذي يُعزز فَرضية أنّ “القبول هنا” و”الرفض هناك” إذا كان لا يَحمل كل منهما مُؤشرات تَغيير وتَغيّر، فإنه بالتأكيد لا يَعكس حُسن النوايا، وكما أنّه ليس تَحولاً براغماتياً في كُليته، فمن المُؤكد أنه لا يَتعدى حدود الحركة الإلزامية القسرية للتعامل مع نتائج إن لم تَكن مُفاجئة فهي ناتجة عن حسابات خاطئة يَعتقد أصحابها بإمكانية تَدوير الزوايا والتصحيح، قبل العودة لمنصات الأمس ومُربعاتها الأولى.
عَبثاً تُحاول الولايات المتحدة تَدوير الزوايا والخداع لتُظهر تَغيراً حاصلاً في سياساتها التي يَرى العالم- كل العالم -أنّ التّغير في اللهجة والنبرة ليس تَغيّراً ولا يَحمل حتى بذور التّغيير. وعَبثاً تُحاول واشنطن لَملمة أطراف مشاريعها المُمزقة، وهي إذ تَفعل فإنما تَخدع ذاتها بإنكار أن كل الذي يجري في الاتجاهات المُخالفة لرَغبتها يَنطوي على تحديات ويَصنع تحديات أخرى فَرضَها الآخر عليها وعلى شُركائها، بقوّته، بصموده، وبثباته على مُقاومة مُخططاتها وإفشالها وتَمزيقها.. وما زال في جَعبة الآخر الكثير ليُحدِّثَ به، الأيام بيننا.