تدريجياً تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط، وتمظهر ذلك بشكل أعمق مع إعلانها عن تحالف “أوكوس” العسكري مع كل من بريطانيا وأستراليا في منطقتي المحيط الهادي والهندي، عقب انسحابها من أفغانستان، الأمر الذي يوحي باصطفافات دولية جديدة تفرضها المرحلة المقبلة من الصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى للسيطرة على العالم.
لاشك أن للتحالفات الجديدة والانزياح الأمريكي من المنطقة نحو مواجهة النمو الصيني العسكري والاقتصادي تداعيات وارتدادات على منطقتنا، الأمر الذي يتطلب من دول المنطقة ومنها سورية التحرك اليوم لمنع بعض القوى الإقليمية المهيمنة من أن تحاول استغلال الوضع وملء الفراغ الأمريكي لحسابها الخاص وهي بالتحديد تركيا التي بدأت منذ عقد من الزمن الحديث عن حدودها الكبرى التي تتجاوز حدودها الحالية في استحضار لتركيا العثمانية التي احتلت معظم جغرافيا الوطن العربي قبل 500 عام تقريباً، وتعمل بشكل حثيث على تنفيذ هذه السياسة على أرض الواقع.
فرغم الضربات المتتالية التي تلقاها رئيس النظام التركي مؤخراً سواء من حليفه الأمريكي الذي جدد العقوبات عليه أو من روسيا التي تطالبه بالانسحاب من شمال سورية، لايزال نظام أردوغان يحاول استغلال التحولات واللعب على الحبال وهو يراهن على البقاء أطول مدة ممكنة في سورية وتوسيع أطماعه التي تصل إلى ليبيا والجزائر غرباً ولا تتوقف في شمال العراق شرقاً.
الحوار السعودي الإيراني الذي بدأ مؤخراً في العراق خطوة في الاتجاه الصحيح لإدارة مشاكل المنطقة وحلها من قبل أبنائها خصوصاً أن الغرب عاد للتودد لطهران فيما يخص الاتفاق النووي، وسورية أعلنت- على لسان وزير الخارجية فيصل المقداد- أنها مستعدة لتسهيل الحوار العربي- الإيراني لأنها تؤمن بأن التضامن العربي الإسلامي يصب في خدمة الدول العربية والإسلامية.
لذلك لابد من أن يكون مسار العلاقات العربية- العربية أيضاً مسار حوار وانفتاح وتعاون وخصوصاً أن مشاكل العرب واحدة وعدوهم واحد ومستقبلهم واحد.. وسورية أكدت عبر وزير خارجيتها في أكثر من مقابلة مؤخراً أن سورية تنظر للمستقبل وعلى الدول العربية أيضاً أن تضع الماضي خلفها وتنظر إلى الحاضر والمستقبل لمواجهة التحديات والأخطار.
اليوم هناك قوى مؤثرة وخيرة هي روسيا والصين وهي تمتلك القدرة على مساعدة دول المنطقة على حل مشاكلها في جوانبها الاقتصادية والسياسية ولا معنى لانتظار المباركة الأمريكية!! فالتراجع الأمريكي بدأ و”غض الطرف” عن الانفتاح العربي على سورية حاصل اليوم.. لذلك ما على قادة دول المنطقة سوى الإقدام واتخاذ القرار.
وليس أقرب دليل على إمكانية ذلك سوى سورية التي واجهت على مدى عشر سنوات ولم تسلم للمخطط الأمريكي، وها هي اليوم -رغم ما أصابها من دمار وخسائر- تستعيد عافيتها ودورها الطبيعي وتمد يدها للبنان والأردن ومصر، وهذا المسار يمكن أن يتسارع بشكل كبير فيما لو صدقت نوايا الأشقاء العرب وتعاونوا لما فيه مصلحتهم ومصلحة سورية.
فحركة الانفتاح العربي على دمشق هي -بلا -مصلحة عربية مشتركة تستفيد منها سورية والدول العربية سواء في مجال الطاقة أو في مجال إعادة إعمار البنى التحتية، لأن سورية تشكل موضعاً استراتيجياً للاستثمار طويل الأجل، وحسناً فعلت دولة الإمارات العربية المتحدة بدعوة سورية للمشاركة في معرض إدبي 2020 وما رافقه من اتفاقات لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين كخطوة مبشرة على الطريق.
السعودية وإيران ليس لديهما بديل عن الحوار، ولبنان يدرك أن لا خلاص له سوى عبر سورية، وسورية تعلم أنها لن تستطيع أن تسبح طويلاً سوى في محيطها العربي الطبيعي الذي يبدأ من لبنان والأردن والعراق ويصل أقصى المغرب والخليج، فبهذا النهج وهذا التعاون يمكن لدول المنطقة أن تقضي على آفة الإرهاب التي تشكل التحدي الأكبر اليوم وأن تستثمر في العلم والتطوير والنماء لخير شعوبها.
تستطيع الدول العربية بتعاونها أن تكبح الأطماع التركية وتعيدها إلى حدودها الطبيعية وتلجم دعمها للإرهابيين في سورية، وبهذا التعاون سيكون الرابح دول المنطقة وشعوبها رغم تبايناتها الطبيعية، وسيكون الخاسر الأكبر كيان الاحتلال الإسرائيلي والدول الاستعمارية التي تتحين فرصة سقوط الدول العربية واحدة تلو الأخرى.
إضاءات -عبد الرحيم أحمد