الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
تصادف اليوم الذكرى الرابعة بعد المائة لوعد بلفور المشؤوم وهو الوثيقة غير الشرعية وغير القانونية التي أصدرها وزير خارجية بريطانيا آنذاك أرثر بلفور واعتمدتها الحركة الصهيونية أساساً “قانونيا” لاغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وسرقة حقوقه التاريخية في أرضه، حيث ما يزال حكام الكيان الصهيوني طيلة أكثر من قرن يحاولون عبثاً أن يثبتوا أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، وذلك عبر مئات المحاولات لتهجير ما تبقى من الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ووجوده وحقوقه ومقدساته، ويتصدى لمحاولات تصفية قضيته العادلة من خلال تآمر بعض الدول الغربية إلى جانب بعض أدواتهم في المنطقة من خلال صفقة القرن المشؤومة التي شكلت خلال السنوات الماضية الحلقة الثانية من وعد بلفور لوأد هذه القضية العادلة بدعم الولايات المتحدة الأميركية وتخاذل عددٍ من الدول العربية السائرة في نهج التطبيع.
تاريخياً بدأت المرحلة التمهيدية الأولى لاغتصاب فلسطين عبر المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1879 لتتلوه المرحلة الثانية ما بين 1905 و1907 حيث مداولات مؤتمر لندن أو مؤتمر هنري كامبل بنرمان “المؤتمر السري الذي ضم كلاً من بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا”، وما نتج عن هذا المؤتمر من وصايا للعمل على تجزئة المنطقة العربية وإبقاء شعوبها مضللة جاهلة متناحرة، ومحاربة أي وحدة يمكن أن تقوم بين شعوبها، ومنع ارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي، وإيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها عن بعضها البعض، والعمل على فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي، من خلال إقامة حاجز بشري قوي وغريب يشكل قاعدة وقوة صديقة للاستعمار الغربي تكون عدوة لسكان المنطقة وقريبة من أهم ممر حيوي فيها أي قناة السويس من أجل الهيمنة عليه، حيث وقع الاختيار على فلسطين، ويبدو أن المؤتمرين كانوا ينفذون مقررات المؤتمر الصهيوني الأول بكل مندرجاتها.
وفي المؤتمر تم التعريج على حالة الضعف التي كانت تمر بها الدولة العثمانية “الرجل المريض” آنذاك وكيفية الاستيلاء على ميراثها، لتأخذ بريطانيا على عاتقها إصدار هذا الوعد المشؤوم في لحظة تاريخية حساسة من عمر الحرب العالمية الثانية التي كانت مشتعلة آنذاك، حيث قسمت المنطقة العربية “سورية ولبنان والعراق وفلسطين والأردن” مناصفة بين فرنسا وبريطانيا عبر ما عرف لاحقاً باتفاقية سايكس بيكو، حيث تم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني استعداداً لتنفيذ الوعد الذي تذرعت به بريطانيا لإنشاء وطن قومي ليهود العالم في فلسطين وبقية القصة معروفة.
وتشير بعض الوثائق التي كانت سرية أن لقاء تم بين فيصل بن الشريف حسين والرجل الثاني في المنظمة الصهيونية “حاييم وايزمان” في 3 كانون أول 1919 حيث أقرّ فيصل بوعد بلفور وحق اليهود في وطن قومي في فلسطين، وقد نظّم اللقاء الجانب البريطاني ممثلاً بمن كان يطلق عليه لورانس العرب، إضافة إلى عبد العزيز آل سعود لتوزيع الأدوار.
وقد ذكر وايزمان في مذكراته لاحقاً :” أن تشرشل قال له في أحد الاجتماعات: أريدك أن تعلم يا وايزمان أنني وضعت مشروعاً لكم ينفذ بعد نهاية الحرب – الحرب العالمية الثانية- يبدأ بأن أرى ابن سعود سيداً على الشرق الأوسط، شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى قام هذا المشروع، عليكم أن تأخذوا منه ما أمكن وسنساعدكم في ذلك، وعليك كتمان هذا السر، ولكن انقله إلى روزفلت “الرئيس الأميركي آنذاك”، وليس هناك شيء يستحيل تحقيقه عندما أعمل لأجله أنا.
ما يهم في هذه الوثائق أن التآمر على اغتصاب فلسطين لم يكن وليد العام 1948 “عام النكبة” بل سبق ذلك بسنوات طويلة، وأنه لم يحدث بعيداً عن أدوات بريطانيا في المنطقة وعلى رأسهم آل سعود في الحجاز، وهذا ما يفسر هذا السعي السعودي المحموم في الآونة الأخيرة وفي فترات سابقة للتخلص من أي شكل من أشكال المقاومة في وجه الكيان الصهيوني الغاصب، والضغط على كل من يرفع لواء تحرير فلسطين ويعمل على استعادة حقوق شعبها المغتصبة، حيث عبَّر ولي العهد السعودي الحالي محمد بن سلمان أكثر من مرة عن رغبته بإقامة أفضل العلاقات مع الكيان الصهيوني، وقد زار مسؤولون سعوديون الكيان وشاركوا بمؤتمر هرتزيليا كمؤشر على العلاقات الوثيقة التي تربط بين الطرفين.
وثمة وثيقة أخرى بخط الملك السعودي عبد العزيز تعود للعام 1915 تقول ” أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل السعود أقر واعترف ألف مرة، للسيد برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لامانع عندي من أن أعطي فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم وكما تراه بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها، حتى تصيح الساعة”، وقد جاء نشر هذه الوثيقة تزامناً مع حلول الذكرى المئوية للوعد المشؤوم.
غير أن كل هذه المساعي والمحاولات لوأد القضية الفلسطينية وتصفية حقوق الشعب الفلسطيني محكومة بالفشل بفضل إرادة هذا الشعب التي لاتلين ولا تضعف، وقد أثبتت سنوات الصراع الممتدة لأكثر من سبعين عاماً بأن الحق الفلسطيني لن يموت مهما تكالبت عليه الصهيونية وحلفاؤها، لأن خلف هذا الحق جيل عنيد لايعرف اليأس ولاالهزيمة، ما أبقى قضيته حية تتعمد بدماء الشهداء والجرحى، وتتواصل ببطولات وصمود الأسرى والمعتقلين والمناضلين