الملحق الثقافي:وجيه حسن:
كما نعرف جميعاً، وبصورةٍ خاصة أرْباب الاغتراب، أنّه في البعد يرتجف المرء من الغيظ والانتظار والتفكّر، فالاغتراب بالنسبة إليه باهظ الثمن، ثقيل الحجر، كثير الإملال، فالمطارات، وحركة الطائرات الذاهبة – الآيبة، التي يمسح عينيه بمرآها، تستعمر قلبه وكيانه بقوّةِ مستعمرٍ أشقر، وانتظار رسائل الأبوين والزوجة والأبناء والأصدقاء والوطن، ينتشر في شِغاف المُغترب ونِياطِهِ، كما لو أنّه دمٌ آخر..
وعندما تصل إحدى الرّسائل الغالية، من هناك، من البعيد، من وراء سُحُب الانتظار والترقّب، إلى أحد المُغتربين، يشعر حينئذٍ أنّ الفرح الأزرق، يتلبّسه من سَمْتِ رأسه حتى أخمص قدميه، يجتاحه من أقصاه لأقصاه، ومن أقصاه لأدناه.. وقتئذٍ يشعر الغريب المُتعَب بنوع من الديناميّة والفرح، كطفلٍ فقير مُبتئِس، يلبس بزّة العيد بعد طول فقر، وكبير حرْمان، أو أنّ الأب المُغترب، يرى في هاتِهِ الرّسالة الثمينة صور أبنائه من الجنسين موّارةً حيّة، كموجٍ دفُوق، بابتساماتهم الرّائقة كالقمر في ليلةِ صيفٍ صافية..
هذا هو الورق النّاصع، المُرصّع بحبر الرّوح، ومِداد القلب، جسرُ التّواصل مع أخلص الخُلصاء، وأعزّ الأعزّاء..
ها هو الأب الغريب، يتلقّى أسطراً زاهية، طريّة، دافئة، ملوّنة بألوان قوس قزح، لكنها في البدء والمُنتهى، تحمل في طيّاتها وفي نسيجها الكثير الجمّ من عَنادِلِ الشّوق والحنين، وكلّها تصله عبر أمواج الأثير المُتكثّرة..
سؤال جوهريّ لافت بهذا السّياق: مَنْ منّا أيها المتلقّون القرّاء، يتجرّأ قائلاً: ما قيمة الكلمات والتعابير التي تضمّها مباسم الرّسالة وأسطرها؟.. سؤالٌ آخر: ما فائدة الأحرف والجُمل، وما قيمة الموضوعات في زمنِ الحروب العبثيّة، وفي زمنِ الاغتراب الباهظ؟.. تعال انظر بعينيك أماراتِ الاشتياق اللاهب، وصور اللهفة في العيون والآذان والقلوب، التي تستوطن وجه كلّ غريب، وهو الذي يُؤمّل نفسه بوصولِ رسالةٍ غالية من الزوجة الجوهرة، من الحبيبة الغالية، من الأبناء الأحبّاء، من أحدِ الأصدقاء الخُلّص، وهو يُمنّي النفس برسالة غنيّة بأخبارٍ سارّة تُثلج القلب، تُسعد الرّوح، تُعيد إلى صاحبهما بعض أنفاسِه اللاهثة..
فإذا وصلته تلك الرّسالة «الكنز»، فيا لهناءته، لحظتها وعندها، ينمو في قلبه وكيانه شوق ظامئ مُضاعَف، وفرح لا حدود لِحدُودِه.. في تلك اللحظة المُثمرة بالفرح، الغنيّة بالحُبُور، يصغر العالَم في عينيه، يصيرُ كلّه بحجمِ رسالةٍ من ورق!..
هل فينا أو فيكم أيّها القرّاء، مَنْ يُصدّق، أنّ الوطن برمّته، وقت تسلُّم الرّسالة، ينضغط في عينيّ المُغترب، ليصير رسالة مكتوبة، ومغلّفاً ناطقاً، فيهما شواطئ وأعاصير، وجُزُرٌ بَحريّة ضافية، وغابات فرح وانتشاء؟!
مَنْ يقل، إنّ الكلمة ليست ذات معنى وتأثير وحفْر، وليست سيفاً ماضِياً، وليست نوراً وناراً، فهو كالقائل بتهوّرٍ وتفلّت: إنّ الحقيقة البائِنَة، والحقّ السّاطِع، إنّما هما زُور وبُهتان، لا يُعتدّ بهما في كثرة كاثرة من دُور العدل هنا وهناك وهنالك، حتّى في «محكمة العدل الدولية» ذاتها..
وكالقائل أيضاً: إنّ الشمس «رائعة النّهار» إنّما هي ليل أسحم، وديجور قاتل.. أو كالقائل المُفلِس: إنّ الدفاع عن بسمات الأطفال وفرحهم، عن ألعابهم، عن حكاياتهم، وعن مستقبلهم، إنّما هو محض جنون، وتهوّر، وافتراء..
إنّ الرّسالة المطريّة الباذِخَة، القادمة من مطارح الذكريات، من ديار الأهل والأحبّة، من هناك من أرض الوطن، تجبر المرء على أنْ يترك كلّ مشاغله وأعماله، ووقت نومه وقيلولته، ليفضّ بكلّ تؤدة وتنسُّك مغلّف الرّسالة، وليسحب منه برفقٍ مُتناهٍ، وهدوءٍ جمٍّ تلك الرّسالة المُنتظرة المندّاة، أو تلك الأوراق الحريريّة داخلها، ليقرأ المُغترِب في تضاعيفِ أسطرِها، وسحر كلماتها، آخرَ الأخبار، أعزَّها إلى قلبه ونفسه، وأعماق روحه..
يفضّ الزوج مُغلّف الرِّسالة:
«زوجي العزيز الغالي.. أنا لكَ، وأنتَ لي.. أولادُنا الثلاثة الأحبّاء، فلذات أكبادنا، حبّات القلوب بخير.. ووطننا الصّامد كذلك بخير.. ولولا وجودُ «قانون قيصر» الأميركي الظالم الجائِر، ولولا الحرب القذرة الضّروس، التي شُنّتْ على بلدنا العزيز، وأحدثت فيه ما أحدثت من تدميرٍ وتفجير، وقتل وتنكيل، وتهديم وتعتيم، لكنّا بخيرٍ عميم، لولا تتار العصر الجُدُد، أرْباب الإجرام والاتّهام، الذين يحاصروننا بلقمةِ عيشنا من كلّ فجّ عميق، ومن كلّ حدبٍ وصوب.. مع ذلك، سيبقى الوطن على صموده وثباته، لطالما هناك عروقٌ تنبض، وأنفاسٌ تتلاحق..
زوجي وعزيزي.. المطر عندنا وفير.. الأمل بالله كبير.. لا تهتمّ ولا تقلق كنْ صبوراً على مواجع الغربة وكُرْبَتِها..الوجع يزحف من القلوب شيئاً فشيئاً.. لسنا خائفين أو مرْعُوبين.. من أرضنا اقتلعنا جذورَ الخوف والصّمت.. استنْفضْنا الذّعرَ من نفوسنا والقلوب.. لن يقبل بلدُنا الصّامدُ الذلَّ سياسة وسفينة، كما هو دأبه وديدنه وفلسفته، على مدى أجيالٍ وأجيال..
انتهى الفزع من القلوب الصّادقة البيضاء، صرنا طُرّاً على أُهبة الاستعداد لِمُعانَقةِ وهج الشمس ودفئها، هي أمّنا الرّؤُوم.. سوف نمسح الحزن العالي من عيون الثكالى والأرامل، حيث فقدوا رجالهم في معمعةِ هذه الحرب الظالمة المُتشنّعة.. سنمسح الحزن أيضاً من عيون الأطفال اليتامى، وستعود إلى وجوههم البرِيئة ابتساماتٍ كانت مهاجرة، كهجرة طيور السّنونو..
زوجي العزيز الغالي «ثائر».. اعلمْ أنت ورفاقك، أنّ الوطن لكم ومعكم.. وأنتم – بكلّ توكيد – له ومعه، لأنّ «حبَّ الوطن من الإيمان».. قبلاتنا جميعاً لِجبينكَ الزّاهر الأغرّ.. ليديك السّمراوين.. لإخلاصك المشهود في التربية والتّعليم، كما أعرف.. لعقلك الهادئ المُتفتّح، لِثقافتك الباصِمَة، ولمحبّتك العالية للقراءة والمطالعة والكتاب..
قبّل بالنّيابة عنّا، شجرَ النّخيل المُبارك، واسلمْ لنا وللأجيال الصّاعدة معلّماً للحرف والكلمة والموقف، فأنت – كما عهدناك – معلّم ذو ضميرٍ حيّ من (بُناةِ الأجيال)، غراسِ اليوم، أشجارِ المستقبل الوَضِيء»..
المُرسِلة: زوجتك المُحبّة المُشتاقَة .. (شام)..
التاريخ: الثلاثاء9-11-2021
رقم العدد :1071