مطرقةُ الحكمة.. للإطاحة بأوثانِ تفكيرنا

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

في كتابه «هذا الإنسان» يحدّد الفيلسوف الألماني «نيتشه» مهمة حياته التي رآها تكمن، في «إعداد لحظة وعي ذاتي للإنسانيّة، وأوج ظهيرةٍ عظيمة، تحدّق للوراء، وللأمام معاً»..
هي ليست مهمّته فقط، بل الرسالة التي أراد لكلّ مفردة من مفرداتها، أن «تُحدث انقلاباً في نفسيّة القارئ، وتدفعه إلى التساؤلات التي تتجاوز الاستفسار عن الأخلاقيات، إلى تحديد مستقبل البشرية..»
يبحث في الوجود، بادئاً بالبحث في داخله، ساعياً إلى «إخراج الإنسان من مرحلة الديدان، إلى مرحلة الإنسان الأعلى، المبشّر بالبرق والقيم الجديدة».. قيم الأخلاق النبيلة والتغيير، والقضاء على اغترابه أو انفصاله، وتقويض قيم العبيد المنبثقة من حياته، وصولاً إلى ولادته من جديد…
إنها الفلسفة الوجوديّة، فلسفة «نيتشه» الذي رأى بأنه والناس الحقيقيّين «محكومون من جانبِ الإمعات والحمقى، والمخادعين والمنتقمين، الذين يشوّهون العالم، ويشوّهون الإنسانيّة».
هؤلاء، هم من جعله يتسلّح بالمعرفة والفلسفة، داعياً إلى فردوسٍ جديد، وساعياً لأن يكون مقاتلاً يشهرُ كلمته: «لست صاحب أحلام يقظة، وأستطيع أن أجد فرحاً في سَحبِ المِطرقة، كما لي أيضاً قبضة قويّة..»..
إذاً، هو محاربٌ لكنّ سلاحه فلسفته، يحملها ويطرق بها القيم البالية حتى يهدمها، ويشيد فيما بعد، قيماً تكون أكثر نوراً وجدوى.
لقد فعل ذلك، بعد أن أدرك أن الثقافة والعلم، قد فقدا البصر والبصيرة، ولم يعودا يصلحا إلا لإنتاج الهمجيّة، وبعد أن شعرَ أيضاً، بأنه المبصر والبصير المبشّر، بما سيشهده القرن العشرين من بعده، من هدمٍ وعدميّة..
هذا الفيلسوف، بل الإنسان المليء بروحِ التهكّم والسخرية، لم يكتفِ بانتقادِ عصره، بل وهاجم أبناء جنسه، وبطريقةٍ شعر فيها وكأنه النسر المحلّق، وهم في القاع يتصارعون في ظلامِ اللاجدوى..
مع ذلك، سعى لتحسين «هذا الإنسان»، وللإطاحة بالأوثان المقيمة في تفكيره.. أي المُثل القديمة التي تُعبد، والتي أراد وبعد تحطيمها، بناء غيرها، مما يضمن ازدهار الإنسان ومستقبله، وحقّه في هذا المستقبل..
يشير هنا، إلى أنه أسّس لهذا الازدهار، اعتماداً على كتبه وأهمها «هكذا تكلّم زرادشت» الذي استشعر فيه صوت:
«يتردّد عبر العصور، وليس لأنه ألطف كتابٍ في العالم فحسب، بل ولأنه أيضاً الكتاب الحقيقي، كتاب الهواء الجبلي، أعمق كتاب، وقد ولد من الامتلاء الكامل بالحقيقة».. لأنه أيضاً «بئرٌ لا ينضب، ولا يهبط فيه غوّاص، إلا ويعود محمّلاً بالذهب والخيرات، ولا يمكن أن يحكم عليه أحد، قبل سماع النغمات المهدّئة التي تصدر منه: أعظم الكائنات صمتاً، هي المبشّرة بالعاصفة، والأفكار التي تأتي على جناحيّ حمامة، هي التي تقود العالم»…
هكذا يمضي، في نشر رسالته، معلناً بأنها ليست موعظة يوجّهها للإنسان، ولا طلب يفرض عليه الإيمان، بل هي كلماتٌ ممتلئة بالنور وعمقه، وهي موجّهة إلى المنصتين لفلسفته وإيمانه وسؤاله: «لماذا أنا حكيم جداً»؟!ّ.
يسأل هنا، ليس انتظاراً لجوابٍ، بل ليفسّر ما يعجز غيره عن تفسيره، منطلقاً من بدايته، حيث بناء ومن ثم انهدام حياته.. البناءُ التي شيّدته أمه التي كانت تراه حيّاً ويكبر، والانهدام الذي سببه والده، الذي شعر بأنه مات بموته، ومُذ كان صغيراً وأمضى حياته من قهرٍ إلى آخر.
إنه ما أشعره بأنه يمضي حياته دون شمس، وفي أدنى حالات الانحطاط، وكأنه «الهائم وظلّه» الذي أوّل ما كتب نفسه، مضطرباً ويعيش ما يشبه الخَدَر…
مع ذلك، ورغم شعوره بالتفسّخ، بحث عن علاجٍ ملائم وغير ضار، يخرجه من عزلته الكاملة، واغترابه عن حياته المُهملة.. لقد كان العلاج الذي اختاره، تسليم نفسه لنفسه، قائلاً عن اختياره، الذي اتّضحت فيه فلسفته:
«وضعتُ نفسي بين يديّ.. بدا آنذاك، كما لو أنني اكتشفت نفسي من جديد.. ما تتضمّنه ذاتي، ومهارة إرادتي، الصحة والحياة، اللذين صغتُ منهما فلسفتي: إن لي ذاتاً أخرى، وبصراً ثانياً، مماثلاً لبصري الأول، وربّما لديّ حتى، بصرٌ ثالثٌ..».
إنها مهارته.. المهارة التي يتوقف لديها، مثيراً العديد من الأسئلة الفكرية ـ الفلسفيّة، التي يريد منها تحريض الإنسان على معرفة نفسه أولاً، ومن ثم تحطيم أوثان تفكيره، دون أن يستنفد قواه، ذلك أن هذه الأوثان، سبب كلّ المشكلات التي تُفقد الإنسان وجهته الحقّة، مثلما «وخز الضمير» الذي يعتبر وجوده فينا «عيناً شريرة»..
يقدّم هنا تجاربه، مشيراً إلى أهمية قراءته، حتى لآثار المناخ والتأثيرات الجويّة، في الملاحظة الذاتيّة، ولأثر ذلك في جعله يشعر وكأن لديه جهازاً دقيقاً، يعوّل عليه لإحصاءِ التغيير في درجة الرطوبة الجويّة، عن طريق هذه الملاحظة الذاتية ـ الفيسيولوجية.
هذه الملاحظة كانت لديه عامة، ومهمة للاستعادة والتجديد، لكونها تساعد الإنسان على الهروب من ذاته، والتجوّل في العلوم الغريبة، وأكثر ما يكون ذلك، في الكتب الثقافيّة الذكيّة، وفي ذلك قوله:
«إليكم أيها المستكشفون والمجرّبون الجسورون، وإلى كلّ من يركب في ظلّ قلوعٍ ماكرة، في بحارٍ مرعبة.. يامن تدورون في فلك الألغاز والأفول، لا تسعوا لأن تشقّوا طريقكم فوق خيط بأصابعٍ جبانة، وحيث تقدرون على أن «تخمّنوا» وتكرهوا أن «تتجادلوا»..
إنه يخاطب الإنسان، ذاك الجدير بأن يَسمع.. بل وأن يقرأ، «مولد التراجيديا» و»أفول الأوثان» كتبه التي جعلت له الحقّ بأن يعتبر نفسه «أول فيلسوف تراجيدي.. أي المضاد، المخالف للفيلسوف المتشائم»..
يطالب قارئه هنا، بأن يدعه يفترض نجاح انقضاضه، وتدميره التام لكلّ ما هو منحطّ وطفيلي، وهو ما سيعيد تهيئته، وبناء حياةٍ يأخذ على عاتقه مهمة رفع شأنها، وشأن إنسانها، وهي المهمة التي أوكلها لـ «زرادشت»، ساعياً به إلى التطهير الهائل، والتكريس العظيم للبشريّة..
هي أفكاره، ولكن إن اعتبرها كُثر «في غير محلّها» إلا أنها كانت بالنسبة له، ذات طابع قتالي في نغمته، مع أنه، وكما ذكر وأشرنا، يمتلك قبضة قويّة، أوّل ما استخدمها ضدّ الثقافة الألمانيّة، التي كان يشعر باحتقارٍ شديد تجاهها، ليكون مبرّره في ذلك، أنها «بلا معنى، بلا جوهر، بلا هدف»، وقد رأى بأنها «ثقافة تفقد البصر، والنشاط العلمي بات وسيلة لإنتاج الهمجية، وبالتالي فالحسّ التاريخي قد جرى الاعتراف به، على أنه مرضٌ ودليل تحلّل.».
إن قبضته التي عملت على هدم هذه الثقافة، حقّقت نجاحاً فريداً، ذلك أن العاصفة التي أثارتها، كانت قوية بطريقة، لامست النقطة المثلومة القابلة للانجراح والطعن لدى أمّته، بل وكتّابها ممن شعروا بأن فخرهم المحلّي قد أُهين، من قبل أفكاره هذه..
البعضُ أيّده، وشاركه احتقاره لكبار الكتّاب الألمان، والبعض الآخر غضب دون امتلاك الجرأة على مواجهته.. الغالبية كانوا صامتين، وعاملوه بحذرٍ بالغ، ما جعله يعتاد على هذه الحريّة المطلقة، في التعبير عن رأيه، والأخذ بنصيحة الروائي الفرنسي «ستاندال»:
«على الإنسان أن يجعل دخوله إلى المجتمع، من خلال معركة»..
نعم، هي معركة، لكنها معركة فيلسوف «إنسانيّ، وإنسانيّ للغاية».. ذلك أنه يوجّه خطابه «للأرواح الحرّة»، وكلّ جملة لديه تكاد تعبّر عن انتصار، ما مكّنه من تطهير نفسه من كلّ شيءٍ غريب عن طبيعته، ولاسيما المثاليّة، التي أول ما عمل على تبرئة نفسه منها، معلناً: «حيث ترون الأشياء المثالية، أرى أنا الأشياء الإنسانيّة»..!!.
أما عن السبب الذي دفعه لذلك، فيكمن في حجّته: «إن فحصتم كتابي بمزيدٍ من العناية، ستجدون روحاً قلقة، تتعرّف على كلّ أماكن الاختباء، لما هو مثالي.. بالشعلة التي في يدي «ونورها ليس نوراً مضطرباً».. أضيء هذا العالم بشعاعٍ نفّاذ.. إنه الحبّ، لكن دون بارودٍ أو دخان، دون شجن أو أعضاء ملتوية، فهذه الأشياء ذاتها، لا تزال هي المثالية، والمثالي لا يفيد..»
يا تُرى، هل تتعلق أفكاره هذه بالأخلاقيات؟!… نعم، هي كذلك لطالما، كان يعتبر الأخلاقيات «دون رائحة بارود، وإنما روائح أخرى أكثر لطافة.. دون مدفعية ثقيلة أو خفيفة، ولا حتى طلقة مدفع».
الرأي هنا لقارئه، فقد ترك له حريّة التقدير بحذر، ولأعماله التي تركها معروضةً تحت الشمس، ليتمكّن القارئ من التقاط الجمل والكلمات، من وسط كتلة الصخور، حيث عاش وحيداً، وتبادل الأسرار مع المحيط.. القارئ الحقيقي هنا، هو من أراده يستخرج من عمقِ أعماله، الحكمة التي تصبح علماً مرحاً، يذيب الجليد من حول قلبه، بفرعه المشتعل، بالأمل الأقصى والشعاع المتألق..
هكذا تكلّم «نيتشه» بل فرعه المشتعل «زرادشت».. الذي كان بالنسبة له، عبارة عن «فكرة أبدية، هي أعظم صيغةٍ للتأكيد، يمكن للإنسان أن ينالها»..
بدأت لديه هذه الفكرة، عندما رجع إلى الوراء، ومع حاشيةٍ تقول: ستة آلاف قدم، وراء الإنسان والزمن..
يومها، تمشّى في الغابات، وتوقّف بجانب صخرةٍ ضخمة سامقة، عاد إلى الوراء، فطرأت له الفكرة. استطاع أن يكتشف علامة تحذيرٍ على شكلِ توقّف فجائيٍّ وعميق، وخاصة بالنسبة للموسيقا التي كانت بالنسبة له، شرطاً هاماً من شروط كتابته..
هكذا بدأ، في «ريكورا» حيث يوجد جبل صغير تتدفّق منه المياه.. وحيث اكتشف، أن طائر الفينيق المتعلّق بالموسيقا، يحوم فوق رؤوسنا، ليستقرّ على الأرض بشكلٍ أكثر ائتلافاً.. إنه اليوم الذي أعلن فيه ولادة «زرادشت».. الذي استهلّ به فلسفته:
«زرادشت الراقص، الخفيف، المتوحّد مع جناحه الطائر، ومع كلّ الطيور… الإنسان المطلق، المكلّل بالورد، طالباً من الناس جميعاً، أن يضحكوا ويفكّروا، ويحطّموا الأوثان التي في أنفسهم، بالحكمة والنور والحبّ..»..

التاريخ: الثلاثاء16-11-2021

رقم العدد :1072

 

آخر الأخبار
France 24: إضعاف سوريا.. الهدف الاستراتيجي لإسرائيل فيدان: مبدأ تركيا أن يكون القرار بيد السوريين لبناء بلدهم "أوتشا": الألغام ومخلفات الحرب تخلف آثاراً مميتة في سوريا الرئيس العراقي: القيادة السورية من تحدد مستوى المشاركة في القمة العربية مؤتمر "نهضة تك" ينطلق في دمشق.. ومنصة "هدهد" لدعم الأسر المنتجة جودة طبيعية من دون غش.. منتجات الريف تصل المدن لدعم الصناعة السورية.. صفر رسوم للمواد الأولية أرخبيل طرطوس.. وجهات سياحية تنتظر الاهتمام والاستثمار مركزان جديدان لخدمة المواطن في نوى وبصرى درعا.. تنظيم 14 ضبطاً تموينياً اللاذقية: تشكيل غرفة عمليات مشتركة للسيطرة على حريق ربيعة الشعار يبحث تحديات غرفة تجارة وصناعة إدلب شراكة لا إدارة تقليدية.. "الإسكان العسكرية" تتغير! حمص.. 166 عملية في مستشفى العيون الجراحي أسواق حلب.. معاناة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة مهارات التواصل.. بين التعلم والأخلاق "تربية حلب": 42 ألف طالب وطالبة في انطلاق تصفيات "تحدي القراءة العربية" درعا.. رؤى فنية لتحسين البنية التحتية للكهرباء طرطوس.. الاطلاع على واقع مياه الشرب بمدينة بانياس وريفها "الصحة": دعم الولادات الطبيعية والحد من العمليات القيصرية