الملحق الثقافي:د. محمد ياسين صبيح *
ظهرت الأجناسُ الأدبية لتفرّق بين كلِّ نوعٍ من الأدب، ولتعطيه ملامحه وصفاته، فالرواية تتكوّن من عوالمٍ حياتية كاملة، تتّصف بسردٍ مطوّل يمرُّ عبر عدّة أزمنة وأمكنة، وتحكي قصص عدة شخصيات، أما القصة القصيرة فهي تمرُّ بزمنٍ قصيرٍ لا يتجاوز اليوم أو أكثر بقليل، وتصف مكاناً محدّداً وربما شخصية أو أكثر، ويمكن أن ندرج فيها بعض الوصف وبعض الشروحات، ولكن القصة القصيرة جداً، وحتى نميّزها عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، وخاصة القصة القصيرة والخاطرة، فيجب أن تتميز بالقدرة على التكثيف والصياغة السريعة والإيحائية، فقصر النصّ القصصي هنا، يتطلّب المقدرة على الصياغة بطريقةٍ مختلفة عن القصة القصيرة، ولذلك لا يمكننا أن نشرح للمتلقّي أيّة تفصيلاتٍ جاهزة، بل الواجب ترك ذلك له ليأخذ تخميناته وتأملاته. وطالما اتّفقنا على أنها جنس إبداعي مستقل، فهذا يعني أنها بالتأكيد، ستختلف بطريقةِ كتابتها وصياغتها عن غيرها من الأجناس السردية، وخاصة القصة القصيرة. من هنا نؤكد ضرورة الحفاظ على تفردّها، من خلال الصياغات المناسبة والمكثّفة، والالتزام بالمكوّنات الأساسية لها.
لذلك من غير الصائب، أن نحشر نصوصنا مهما كانت طويلة، ضمن مسمّى (قصة قصيرة جداً) وندافع عن أجناسيتها، إذا كانت تنتمي إلى القصيرة فقط، وكتبت بأسلوبها وبتقنياتها. هنا لا نتحدّث عن جودة وجمالية النصّ، فلنترك النصّ ينتمي إلى أجناسيته المناسبة مهما كانت، ولتكن مثلاً القصة القصيرة، ولن تتأثر جودته وجماليته أبداً، بل قد يحلّق إبداعياً، إذا لا يمكننا صياغة أي نصّ وحشره أجناسياً ضمن مسمى (القصة القصيرة جداً)، بل يجب أن نراعي ملامح وعناصر كلّ نوعٍ أدبي، ونلتزم به عندما نريد أن نكتب ضمنه.
إن النقاش في هذه المسائل يدلُّ على أن صياغة القصة القصيرة جداً، ليس بالأمر السهل، من حيث متطلبات صياغة النصّ بكلماتٍ قليلة مكثّفة يحكي قصة كاملة، دون أن يشرح لنا حيثيات الحدث وبيئته، لأن النصّ يجب أن يكون كالرصاصة التي تصيب وتنفجر عند المتلقي، تأويلات ودهشة ومتعة. لذلك يجب أن يتمتّع كاتب القصة ق ج، بالمقدرة الإبداعية التي تمكّنه من صياغة نصّه بشكلٍ مكثّف، دون أن يفقد مكونات القصة، على ألا يكون النصّ خبرياً، كما في الصحف أو التحقيقات.
نؤكد هنا أن مسألة جماليّةِ النصّ وقوّته الإبداعية، غير مرتبطة، بنوعه أبداً (قصة قصيرة، قصيرة جداً)، بل بالنصِّ نفسه، ومقدرة الكاتب على ابتكار أسلوبه، في أيّ من الجنسين، ولكن ما نؤكّد عليه، هو ألا نصنّف قسرياً نصوصنا ضمن نوع القصة القصيرة جداً مثلاً، وهو يتضمن الكثير من الشرح والوصف والإطالة، فنحن بذلك نظلم النصّ، فلنتركه ضمن مجاله الطبيعي (القصة القصيرة) مثلاً، ولا نفرضه قسراً على نوعٍ يحتاج به النصّ إلى صياغةٍ مختلفة من استخدام تقنياتٍ من أهمها التكثيف، وأقصد القصة القصيرة جداً. وهكذا يأخذ النصّ حقّه وقيمته، ونوكّد أن الكتابة في مجال القصة القصيرة جداً عملية صعبة، وتحتاج إلى أن نبتكر أسلوبنا وطريقة صياغتنا المكثّفة، مستخدمين تقنياتٍ عديدة لذلك، مثل (الحذف والاضمار، وعلامات الترقيم والتكثيف الدلالي وغيرها…)، ومن لا يتقن ذلك ليبق ضمن مقدرته على صياغة نصوصه في القصة القصيرة فقط، وهذا سيعطيه بالتأكيد بعداً إبداعياً يستطيع أن يعطي فيه الكثير. أما أن نكتب نصّاً يتّصف بشرح بيئة القصة وسرد تفصيلاتٍ كثيرة، كان يجب تركها للمتلقّي، أو أن نختصر قصة قصيرة إلى شكلٍ أقصر فقط، فهذا لا يكفي لجعل النصّ يندرج ضمن تصنيفاتِ القصة القصيرة جداً.
كما أنه لا يمكننا أن نحدّد للقصة القصيرة جداً، أي شكلٍ خارجي (طويلة، قصيرة)، كأننا نحدّد لبناءٍ ما، شكل الباب والنافذة، فهي إبداعٌ سردي تتعدّد أساليب السرد والصياغة والتقنيات المستخدمة فيها، باختلاف الكاتب ومقدرته على إدارة الجمل والكلمات في مساحة صغيرة جداً، لذلك فإن القيمة الحقيقية لأيّ عملية إبداعية، لا تكمن في طولها أو قصرها أو في أي شكلٍ كان، بل تقييمها يكون في قيمتها الإبداعية المنتمية إلى جنسها الأدبي المعيّن، ولذلك يمكن للكاتب أن يجتهد في الأسلوب ويجرب أسلوبه الخاص، ليتمكن من كتابة قصة قصيرة جداً ومكثفة، تتضمن أحقيتها بالتسمية أولاً، وبصياغة فيها التشويق والمشهدية والسرعة السردية والمفاجأة والتأمّل ثانياً، وننوّه إلى ضرورة عدم الخلط بين الأجناس الأدبية، كأن ينتقل الكاتب من الشّعر إلى القصة ويدعي أنه شعر مثلاً، إذ إن الحالة الإبداعية يجب أن ترتبط في حالتها الأجناسية، لكي تمكّن المتلقّي من تقييم النصّ وبنيانه وصياغته، هكذا يمكننا القول إن القصة القصيرة جداً، لا يمكنها التقوقع ضمن قوالب جامدة وأشكال سردية، بل هي حالة إبداعية ترتبط بالإبداع الذاتي للكاتب، ولا يمكن أن نقولبها ضمن عدد محدّدٍ من الكلمات أو الأسطر، فالعملية الإبداعية هي تجربة ديناميكية حرّة، تفرض نفسها من مقدرة الكاتب على الصياغة السردية بالطريقة المناسبة والمكثفة للقصة، وهنا بإمكاننا تقييم الصياغة ومدى تفردّها أو ابتعادها عن الحشو الزائد، إذاً هي حالة إبداعية أدبية مفتوحة على احتواء النصّ للفكرة الكاملة بأقلِّ حجمٍ سرديٍّ ممكن، دون أن يفقد المشهدية والتشويق والمفاجأة والحالة الجمالية، وبحيث لا يشكّل الحجم الهاجس الذي يجب أن يبتر النصّ، أو يجعله يمتد طويلاً.
ما يجبُ أن نرّكز عليه ونعرفه في القصة القصيرة جداً، أنها تكتب بطريقة مختلفة عن صياغة القصة القصيرة، لأن كتابتها بنفس الأسلوب سوف تجعلنا نحتاج إلى مساحةٍ واسعة من السرد، وسوف نكرّر تقنيات القصة القصيرة، وبالتالي سوف نبقى ضمن أجناسيتها، فالقصيرة جداً، تعني أنه يجب أن نراعي قصرها، وبالتالي يكون التكثيف هو الأسلوب الأساسي الذي نستخدمه في كتابتها، وأن نراعي التقنيات الأخرى المناسبة لها، والتي نعبّر بها عن الفكرة بشكلٍ إيحائي غير ملغّز لدرجة الإبهام، ودون أن نصف ونشرح كلّ شيءٍ حتى لا تتحوّل إلى ما يشبه الخبر أو التحقيق، فالحالة المكثّفة تجعلنا نترك المزيد من الإيحائيات لدى المتلقّي، لتشكّل حالة جمالية يشاركنا فيها المتلقّي من خلال التفكير ببعض المعاني والأحداث المضمّرة مثلاً، وبالتأكيد لا نتخلّى قدر الإمكان عن الجمالية المطلوبة كالشاعرية مثلاً، ويمكننا أن نستخدم البلاغة اللغوية كحالةٍ محسّنة، دون أن نجعل ذلك يثقل القصة، فهي تقنياتٌ ليست مُلزِمة للكاتب، بقدر ما هي مساعدة له.
لكن ذلك لا يعني التخلّي عن جماليات القصّ وشاعريته، ولا يمنع من أن يجرب الكاتب أسلوبه، ولو بقليلٍ من التوسّعات السردية الوصفية الضرورية، التي لا تثقل كاهل القصة، وتجعلها تترهّل، وهذا عائدٌ لطريقة وأسلوب الكاتب، ولا ضير من وجود بعض الإسهابات التي لا تشكّل عبئاً على النصّ القصير جداً.
حاولنا أن نقدم رؤية سريعة عن ماهيّة القصة القصيرة جداً، وإشكاليات صياغتها، نظراً للعديد من النقاشات النقدية المطروحة، والتي يحاول فيها البعض، فرض نصوص طويلة ضمن القصة القصيرة جداً، وذلك للترويج لمبدأ عدم تمايزها عن القصة القصيرة، وبالتالي الدفاع عن أحقّيتها ضمن هذا النوع الأدبي، لذلك من الأفضل أن يشتغل الكاتب على أسلوبه وتقنياته ويطورها، بحيث يستطيع الصياغة بإيحاءٍ جميل ومكثّف، دون أن يتخلّى عن القصة في النصّ، حتى تبقى النصوص ضمن أجناسية القصة القصيرة جداً.
*كاتب وناقد
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073