الملحق الثقافي: هفاف ميهوب:
عندما تستدعيك الصدفة للتوقّفِ لدى كتاب، فإنها تجبرك على تأمّله، وربّما قراءته، ولاسيما إن فرض عليك عنوانه، أن تقارن ما بين أيادي الحقد والبشاعة التي أحرقت غاباتنا، وأيادي الحبّ التي أحالت صمغ أشجارها، بل دموعها، إلى كلماتٍ تُفاقم شعورنا، بأننا فقدنا جزءاً كبيراً منّا، وبأن الاحتراق الذي طال جسدَ وقلب تلك الأشجار، قد ترك ندوباً لا يمكن أن تندمل في أرواحنا وحياتنا..
الكتاب الذي استدعتنا الصدفة للتوقف عنده، هو «الحياة السريّة للأشجار»، والوجع الذي تفاقم لدينا، سببه مضمونه الذي حمّله الألماني «بيتر فوليبن»، دارس علم الغابات، والمتفرّغ للعمل فيها، ما يقول فيه:
«تعمّدت استخدام لغةٍ إنسانيّة بحتة، فاللغة العلميّة تنحّي كلّ المشاعر جانباً، ولن يفهمها الناس، فعندما أقول: «إن الأشجار ترضع أبناءها»، فأنا متأكّدٌ من أن الجميع يفهم ما أقصده فوراً..»ّ..
حتماً هو يخاطب القارئ المنتمي.. وأقول المنتمي، لأن الانتماء يعني التجذّر، ولا شيء أكثر تجذّراً في الأرض، من أشجارها، وابن قلبها الوفي..
أعتقد بأن القارئ الذي قصدته، متألّمٌ وناقمٌ جداً، وعلى من سعى لإيقاد النارِ وإحراقِ الحياة في أرضهِ وجذوره.. نعم هو متألّم، ولأنه يُدرك جيداً مالا يحتاج لأن يؤكّده له الكاتب، وبأن «الأشجار ترتبط ببعضها ارتباطاً شديداً، حدّ تعانق جذورها بطريقةٍ تجعل إحداهما تموت إن ماتت الأخرى، وبأنها تتصرّف بشكلٍ جماعيّ، وتتشارك الموارد التي تعزّز بقاءها… «
أسأل هنا: هل يعي من أحرق غاباتنا وأشجارنا، بأنّ لها حواسها وإشاراتها ولغتها؟!.. وبأنها تشعر وتمرض وتتألم، وتلعن من يوقد شروره في جسدها، أو يشوّه جمالها، أو حتى يبترُ ولو فرعاً من أغصانها، أو يمزّق وإن ورقة من أوراقِ اعتمادها؟!!.
لا أعتقد.. فمن يفعل ذلك بلا انتماءٍ ولا يعي، بأن الأشجار وإن قُتلتْ لا تموت، بل تضمّد جراحها، وتتعاون لتضميدِ جراح عائلتها، وبأنها تتجدّد بأسرارها وحكاياها وعشقها لكلّ من يستظلّ بها حباً وولعاً، فتغسل وكلّما تذكّرت انحطاطُ قاتلها، شيئاً من عفنهِ المتراكمِ في ذاكرتها..
mayhoubh@gmail.com
التاريخ: الثلاثاء23-11-2021
رقم العدد :1073