الملحق الثقافي:رنا بدري سلوم:
الفلسفة «حُبّ الحِكمة»، وأصل كلمة الفلسفة اختصارٌ لكلمتَين يونانيّتين، هما: فيلو، وتعني: حُبّ، وسوفيا: تعني الحِكمة، وينسب بعض المؤرّخين هذا الاصطلاح إلى فيثاغورس، الذي أطلق على نفسه لقب فيلسوف، وإذا كنا نعتبر أن الفلسفة أم وأساس كل العلوم؛التي تبحث عن طبائع الأشياء وحقائق الموجودات، سواء أكان في الطبيعيات أم الغيبيات أم الإلهيات، وبذل الجهد في سبيل المعرفة الخالصة والحقيقة أيّاً كانت هذه المعرفة، فلابد لنا أن نسترجع في وقتنا الراهن حاجتنا إلى الفلسفة بعد استقلالها عن العلوم، فقد برزت مشكلات بحجم التقدّم العلميّ والنهوض الحضاريّ، التي أعادت للفلسفة مكانتها وأظهرت الحاجة لها؛ وذلك لدورها في تحفيز العقل، وجعلِه قادراً على التّمحيص والبحث العلميّ، كشف الأوهام، وإزالة الخرافات التي تُعيق العقل وتُضلِّل البحث العلميّ، إضافة إلى حاجة العلم المُستمرّة إلى فحصٍ فلسفيّ؛ لأنّ العلوم تعتمد على منهج ليس نتاجَها، ومبادئ غير متعلقة بها، كما أنّ جُرأة الفيلسوف مهمّة لموضوعيّة البحث العلميّ، وترشيد العلوم لغايات اجتماعيّة تعود على المجتمع بالنّفع، وربط العلم بالأخلاق؛ لتَحول دون صيرورة العلم ضِدّ المجتمع. وأخيراً إخضاع الاكتشافات العلميّة للقِيَم الإنسانيّة؛ لأنّ غاية العلم التوصُّل إلى نتائج واكتشافات، ومن هنا كانت الفلسفة ابنة بيئتها تمر بمراحل نمو ونضوج وتتأثر في مكنونات الواقع الراهن، لذا لابد من أن تُدرس في مناهجنا التربوية والتعليمية والثقافية، فقد اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو عام 2002 يوم الثامن عشر من تشرين الثاني من كل عام اليوم العالمي للفلسفة، وهو ما فتح باب النقاش الجدليّ في الملتقى الحواري الفكري الذي ترأسه دكتور الفلسفة المفكر عماد فوزي الشعيبي، وفي هذا التقرير نعرض ورقتي العمل التي وصل إليها كادر التوجيه التربوي في وزارة التربية في أيام الثقافة التي نحتفي بها في رحاب مكتبة الأسد الوطنية.
الفلسفة في الثقافة العربية المعاصرة
هل نحن «العرب» لدينا فلسفة؟ سؤال وجهه الدكتور عهد شلغين الموجه الأول لمادة الفلسفة في سورية إلى الحضور، وماهية الفلسفة في واقعنا؟ إن أزمة حضور الفلسفة في وعينا ينطلق إلى تداعيات فكرية وأخلاقية تمس وجود الإنسان فلكل مكان وزمان فلسفته الخاصة، فالفلسفة سؤال أبديّ، تطرح أسئلة تبحث عن الحلول في المجتمع، تجيب عن فضول الإنسان واندهاشه، أما اليوم فتتناول الفلسفة قضايا جديدة عامة وعربية خاصة، فلم تعد الفلسفة مأطرة بتاريخها، حيث تبدلت مجالاتها الثقافية نتيجة تغير وعي الإنسان والتطور التكنولوجي، فوقفت الفلسفة في الثقافة العربية أمام مأزق تحديات الواقع وانتشار الفلسفات التقليدية، وبالعودة إلى التاريخ أسهمت حركات الترجمة في نقل الفلسفات اليونانية إلى العربية، وقبل الحديث عن واقع الفلسفة لابد من البحث في البيئة المهيأة لها والظروف الراهنة وطرق التفكير فيها بتقليدية لم تعد مجدية، وقد لعب الركود التاريخي دوراً بائساً فسبب الاستبداد العثماني انقطاعاً واضحاً في روح الفلسفة إلى حين ظهور أفكار تنويرية عند رواد النهضة العربية في بداية القرن التاسع عشر الذين حاولوا بناء رؤية فكرية ثقافية غلب عليها الجانب العقلاني لبناء مشروع التنوير العربي، الذي لم يصل إلى مبتغاه ولم ير النور فكرياً، وجاء القرن العشرون ببيئة مأزومة فكان للعلماء العرب والمفكرين دور في إعادة الفلسفات الغربية بصورة عربية كالمفكر والمؤرخ والفيلسوف المصري يوسف بطرس كرم، الذي أضاء غُرَّةَ التاريخ الفلسفي بمذهبه العقلي؛ وشغل مَنْزلةً مرموقةً بين المثقفين المصريين، واضطلع بمهمة دراسة الفكر الفلسفي الغربي؛ فلم يترك حقبة في تاريخه إلا وكتب عنها، وهو يعد واحداً من أبرز مؤسسي الفكر الفلسفي في الوطن العربي، وتعد كتاباته علامة فارقة في أدبيات الفلسفة باللغة العربية.
والمفكر عثمان أمين، ومحمد عزيز لحبابي الذي يعد مؤسساً لمذهب الشخصانية الإسلامية، إضافة إلى المفكر المصري حسن حنفي الذي يُعدّ واحداً من منظّري تيار اليسار الإسلامي، وتيار علم الاستغراب، وأحد المفكرين العرب المعاصرين من أصحاب المشروعات الفكرية العربية، بينما المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، والذي له مؤلفات في قضايا الفكر المعاصر، أبرزها «نقد العقل العربي»، والمفكر والمؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي يعتبران من المفكرين الذين اتخذوا التاريخانية الجديدة مذهباً وفلسفة ومنهجاً للتحليل، كما يُعد العروي أيضاً من أنصار القطيعة مع التراث العربي والإسلامي ومن دعاة تبني الحداثة الغربية كقيمة إنسانية.
هؤلاء المفكرون جعلوا تجديد التراث هو الشرط الأساسي لانطلاق المشاريع النهضوية، والفلسفية في وعينا وسلوكنا وفي اللاشعور لدينا؟ يتساءل المفكر الدكتور زكي نجيب محمود كان أول من طرح قضية الثنائية الثقافية أو الحضرية وهي إحدى ثنائياته التي اشتهر بها على شاكلة «الأصالة والمعاصرة».»
فالهاجس الذي شغل الفكر المعاصر كيف نتعامل مع التراث لأن في تنوع المشاغل الفكرية ولدت رؤى مختلفة عن التراث، فالتراث سلسلة ماض لحاضر لم يبدأ بعد، لماذا علينا أن نعود لماضينا، هناك ضرورة لصقل تجربة المجتمع، تنبثق من وعينا وحياتنا الراهنة وجعل التجديد من أجل بداية فلسفية، فالفلسفة اليوم هو تغليب الطابع الغربي، الفلسفة ليست هي لغة الفلسفة وتطبيع لغة غربية، الفلسفة طابع تقليدي وصار لزاماً علينا إحياء العقل الفلسفي وولوج القضايا الإنسانية المعاصرة ووجوده في هذا العالم ووضعه أمام التقدم التكنولوجي، فالفلسفة ربطت الواقع المملوء بالمصطلحات ومقاربتها بالتفكير فإن غابت الفلسفة غابت التنمية، فهي بالنهاية ممارسة يقودها الإنسان ككل باستقلالية العقل، ويجب ألا نسأل هل هناك فلسفة عربية؟ بل يجب أن نسأل ما القيمة المضافة التي تنطلق منها الفلسفة العربية لتحاكي الوجود الإنساني وتقود المستقبل؟
الفلسفة في مواجهة الأوبئة
وتعزيز المواطنة بعد الحروب
عنوان لافت ومهم ووجب الوقوف عنده مطولاً ولاسيما أن الموجهة الأولى لمادة الفلسفة في وزارة التربية الأستاذة سماهر مظهر اليوسف تجد ضرورة تدريس الفلسفة في مناهجنا التعليمية ولاسيما في هذين الواقعين الراهنين الأول كيفية «مواجهة الأوبئة»، والثاني «الفلسفة وتعزيز قيم المواطنة بعد الحروب»، يأتي اليوم العالمي للفلسفة في وقت تجتاح جائحة كورونا العالم، ولهذا بعد نظري وفلسفي ودلالات الجائحة لنستطيع الخروج من هذه الأزمات، وهنا سلطت اليونسكو الضوء على الجائحة بأنها الأزمة الصحية التي أثارت الشكوك والتساؤلات، ووحدها الفلسفة تعزز في داخلنا الحس النقدي إزاء المشكلات التي نواجهها.
فما البعد الفلسفي لجائحة كورونا؟ إنها جائحة المآسي في النفس البشرية كأجواء الشعور بالنهاية، والموت، فعند الفيلسوف اليوناني إبيقور الذي عاش في الفترة بين عامي (341-270 قبل الميلاد)، كان الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة لها خاصتان: الطمأنينة، والسلام، والتخلص من الخوف والخاصة الثانية غياب الألم، والاكتفاء الذاتي محاطاً بالأصدقاء. ومن فلسفة « إبيقور» أن السعادة والألم هما مقياس الخير والشر، وأن الموت هو نهاية الجسد والروح، ولهذا لا ينبغي أن نرهبه، وأن الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، وأن الكون لا نهائي وأبدي، وأن أحداث الكون تعتمد بالأساس على حركات وتفاعلات الذرات في الفراغ.
للفلسفة منزلة استثنائية تمثل الحقل المعرفي في زمن الخوف والهلع، أسئلة وجودية طرحها العقل البشري ليس في زمن كورونا اليوم عن قلق الحياة وغياب الضمير ووجود البشرية والأخلاق وجهل الإنسان لمصيره، وحسب، بل في زمن الطاعون والكوليرا، وما تسببه هذان المرضان من وفيات عددها بالمئات والآلاف في الماضي القريب، واليوم نسترجع هذه الأفكار إلا أن فكرة واحدة وضّاءة أن هناك عقلاً اًوحداً يبحث في كل المختبرات عن لقاح وقائي وعلاجي لهذا الوباء الكارثي، ورغم ما وصلنا إليه من العلم إلا أننا لا نزال بحاجة إلى المعرفة والبحث في إعطاء تفسير فلسفي لهذا الوباء.
يطرح فيروس كورونا أسئلة تتعلق بأخلاقيات العلم، وأخذ عبر من التاريخ، تدعو كي ينعم المجتمع بالعيش المشترك بعد غياب التضامن الإنساني، وهنا يكمن دور الفلسفة في حل الأسئلة الأخلاقية والصحية، وضرورة الالتفاف حول أنفسنا، لأننا مرآة الحياة، فقد دعا الفيلسوف سلافوي جيجك إلى الاستفادة من العزل والحظر في زمن الوباء لإعادة إحياء تجربتنا في الثورة المعرفية في تشكيل القيم المعرفية، لتخلص الإنسان بجعله يعيش كرقم ولتمنح فناً للحياة والعيش.
وعن آلية الفلسفة في تعزيز المواطنة ما بعد الحروب تشير الموجهة سماهر يوسف إلى أن أزمة الأخلاق تفشت بعد أزمة سوداء أفرزتها الحرب على سورية، كمفاهيم الفساد الأخلاقي والانتماء، ولكن كموجهين تربويين نعوّل على ما بعد الحروب، في بناء جيل يدرك أنه لا جدوى من استمرار النزاع، دون بناء إنسان يعي فكرة المواطنة الذاتية وعلاقته بالدولة ورفع الحجب عن الذات وإيقاظ ذاته بصيحة سقراط الشهيرة «أيها الإنسان اعرف نفسك، بنفسك»، ومقولة رينيه ديكارت «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، ويبقى السؤال هل ندرس الفلسفة في المدرسة أم نتعلم التفلسف وكيف نحول جرس الفلسفة إلى الانفتاح الفكري ؟
في النهاية لابد من تفنيد الشائعة التي تقول» إن الفلسفة لا جدوى منها في مجتمعنا»، واعتبارأنها تمرد وخروج عن المألوف، بل يجب أن نعتبرها فضاءً نتعلم فيه التفكير الذاتي واحترام الذوات وتقبل الآخر لبناء الإنسان وبناء مواطن فاعل لتعم الفلسفة في المجتمع ويزداد الفعل الثقافي في المنظومة التعليمية ككل، يقال الحروب تذهب الأخلاق لكننا نؤكد أنه لابد من الاستفادة من أخطاء الماضي لننشئ أفكاراً جديدة لننعم بسلام فكري وفلسفي وإنساني.
التاريخ: الثلاثاء7-12-2021
رقم العدد :1075