الثورة – أديب مخزوم:
ضمن فعاليات أيام الفن التشكيلي السوري 2021، كرمت وزارة الثقافة الفنان ناثر حسني، إلى جانب مجموعة من الفنانين والفنانات، وذلك بعد مسيرة طويلة غنية بالمعارض الفردية والمشاركات والإنتاج الفني المتواصل.
وفي لوحاته الفنية، التي قدمها على مدى أكثر من نصف قرن، يبدو حالماً وشاعرياً في أشكاله وألوانه، التي تريد الإمساك بذكريات عن أمكنة وفسحات خضراء غابت أو تكاد تغيب، وسط الهجمة المعمارية الحديثة، التي تكاد تقضي على حكايات البيت الدمشقي القديم، المترسخ في الذاكرة والقلب كبصمة لا تغيب.
وبصمة مدينة دمشق القديمة، المميزة بعمارتها وأوابدها الحضارية، جسدها في لوحات لاتعد ولا تحصى عكست بأجوائها الرومانسية أحلامه وتعلقه أو إحساسه بالأبنية والذكريات المنسية، التي عاش فصولها في أحياء دمشق القديمة العابقة بالياسمين والأضاليا والمنثور من الداخل والخارج معاً.
ومنذ السبعينيات بدأ ناثر حسني الرسم والعرض متعلقاً برونق الأبنية القديمة، المكشوفة على الأحلام والضوء والهواء الطلق، وبقيت أحلام المدينة القديمة مترسخة في وجدانه وقلبه، لأن علاقته بها كانت غريزية منذ طفولته وفتوته، حيث استرعت انتباهه جمالية الهندسة المعمارية في الأبنية الفسيحة، التي أعطت لدمشق طابعها وجمالها ورونقها الخاص.
وهو في مجمل لوحاته ، ظل متيقظاً، في خطوات بحثه عن إيقاعات مدروسة وموزونة، رغم أنه يذهب في بعض لوحاته، إلى إضفاء لمسات لونية عفوية تتحول عبرها الأشكال الواقعية إلى حركة رومانسية شاعرية تحرك المشهد المرسوم وتجعله يلامس أجواء الصياغة الانطباعية وصولاً إلى الصياغة التجريدية التي خاض غمارها أيضاً.
هكذا تطرح لوحات ناثر حسني جماليات التفاعل مع إيقاعات العمارة القديمة المعرضة لمخاطر الاندثار والزوال، فأعماله المستوحاة من علاقته المباشرة وغير المباشرة مع البقية الباقية من جمالية آثار المدينة، أراد من خلالها توجيه تحية إلى الجمالية الهندسية المترسخة في البنى المعمارية القديمة الباقية في مشاهدات القناطر والمقرنصات والحجارة المتناوبة الملونة والزخارف الهندسية والنباتية والكتابات القديمة.
وفي لوحاته المتنوعة التي رسمها بعد جولاته الفنية بين أحياء المدينة القديمة، تبرز ملامح من مؤشرات التفاعل مع هذا الحلم الشرقي، الذي لا يزال رغم سجل الغربة التي نعيشها حيا في نفوسنا وذاكرتنا.
وقدم في مراحل سابقة، لوحات أخرى تنحاز بشكل واضح نحو التبسيط والاختصار، لإبراز تداعيات الحركة الداخلية الانفعالية والعاطفية عبر معطيات اللمسة اللونية العفوية التي بحث من خلالها عن خصوصية فنية وتشكيلية متميزة.
هكذا كان يبحث ناثر حسني عن مناخات جديدة للوحة المشهد المعماري، يزاوج ما بين إشارات الواقع ( المستمد من انطباعات الذاكرة أو من الجلسة المباشرة ) وبين تكاوين المنطلقات التعبيرية في أبجديتها الغنائية ( كلمسات لونية عفوية ) والهندسية (في تكاوين الأقواس والمربعات والمستطيلات والزوايا القائمة والحادة والخطوط الشاقولية والأفقية والمائلة ). حيث ظهرت تنويعات الأشكال المعمارية في لوحاته كعناصر متجاورة ومتتابعة تبحث عن تشكيلات هندسية بعيدة عن المنهج التزييني البصري الذي يتقيد بالتفاصيل وبصورية الشكل وواقعيته التسجيلية.
وهذا الانتماء إلى ملامح المناخ المعماري الدمشقي، يحتفظ بروح التراث المحلي، رغم ذلك الكسر الذي يبعد المشهد عن التدقيق الذي يوحي بالمرجع الواقعي التسجيلي، فالمهم بالنسبة إليه أنه يستعيد إشارات المشهد المعماري المحلي بالارتداد إلى الداخل، ليخرجها من حيز صمتها وليجددها أو يستنطقها بالبوح الانفعالي المباشر .
كما قدم في العديد من لوحاته، المنظر الطبيعي والزهور والورود وغيرها، بأسلوب تقني لافت، واستخدم اللطخات اللونية السميكة، وبالتالي تعامل مع الأشكال على أنها غير ثابتة، وأنه يمكن تعديلها، بحيث تستجيب للرؤى اللونية والبصرية، بعيداً عن الصياغة الواقعية التقليدية، فالتأليف كان يخرج من مشاعره وأحاسيسه ورؤاه الفنية، مركزاً لابراز الإيقاع الموسيقي اللوني والغنائية التعبيرية.
وفي أكثرية لوحاته يبدو أكاديمياً متحرراً، وملوناً عارفاً لأبجدية وجماليات الفن الحديث. فهو فنان الطرب والإيقاع اللوني. وقبل أي شيء آخر، الفنان الذي يمتلك حساسية خاصة في معالجة البيت الشامي والمنظر الخلوي والزهور، ضمن مناخ لوني وتشكيلي مميز وخاص، فالشيء البارز الذي كشفه في لوحاته يكمن في قدرته على إظهار الحوار اللوني التلقائي، الذي يعكس هواجس غنائية في صياغة إيقاعات من تكاوين العمارة والطبيعة والزهور.
ورغم كل العفوية والانفعال الذي رأيناه في بعض لوحاته، بقي اهتمامه منصباً على إبراز عناصر التناسب والتناسق في لوحاته، وهو يتنقل بين الدقة الواقعية وبين العفوية التعبيرية، ولوحاته تشدنا ليس بموضوعها المحبب فحسب، وإنما بمعالجتها التقنية العفوية، التي تجعل لمسات اللون متراقصة في فضاء المشهد، لاسيما حين يتجه لإضفاء لمسات لونية مصاغة بحرية ومجسدة بالريشة مباشرة، تبدو غنية بتعبيرها ومكثفة بالأحاسيس العميقة، وهذه العفوية تلغي الثرثرة التفصيلية، على لإظهار حداثة المناخ التكويني والتلويني