الملحق الثقافي:ألوان عبد الهادي:
الشعر هذا الوحي ينسكب لإرواء الروح كما الغيث لإرواء الأرض العطشى. وأسمى الغيث أوله يتعطر به التراب وينتشر عبيره عند انهماره، وكذلك أول الشعر انهمار تتلقفه الروح بلهفة التوق للاغتسال بدفق شذاه وعال هذا السرج هو أول هذا الانهمار الذي يتدفق سيول غمار من العطور الملونة والمختلفة الأزهار. لتجد فيه قصيدة عالية تتملكك وتدب بسلاسة مياه النبع الرقراقة في عروق الأرض دبيبها في شرايين الجسد. ليرسم عال هذا السرج مسراه كماء النهر مجراه بطلاقة وعفوية تفرضها على تضاريس الأرض كما تضاريس الروح هذه العفوية التي تطرق اعتلاجات الروح دون استئذان فتنساب معها بعفويتها التي تنتشلك من واقعك إلى عالمها الضاج بالأفراح والأحزان بالآلام والابتسامات التي تختلسها من انسرابات الضوء بين الأوراق وانعكاسات الشمس وهي تراقص الظلال تفيء وتقيل بظلها وتستيقظ على زقزقتها فلا تتركك. وتناغمها.. وتناغمك كما تناغم الحساسين حفيف الشجر وتوقظ الصباح أن ينطلق في رياضة النهار.. تروض روحك بين ثلاثة وأربعين قصيدة، تميزت ببساطة المفردة وتأجج الفكرة. متوسطة الطول وقصيرة في مجموعة إصدار الهئية السورية للكتاب ضمن سلسلة إبدعات شابة استقطبت آلام الواقع ومآسيه في حرب جامحة نالت من بلدنا وأخذت منها مأخذها إلا أن الأرواح النقية والشابة التي روت ترابها الغالي استعادت إليها الروح واستأنفت الحب إلى الحياة. هذا القلم الشاعر البليغ في هذا الوصف أول قصيدة تستفتح بها الديوان بعطور هذه الدماء النقية «حياة صورة» وهي تتسربل فيها صور لسيرة حياة شهيد يتسلق جدار الشهادة لإعلاء علم بلده مرفرفاً في السماء وليحيط نشيدها بعقود الياسمين مروياً ترابها بدمه كي نعيش.. صور رشيقة جزلة ألبستها رمزية شفيفة لتبدو واضحة السريان والقبض على الفكرة التي تريد إيصالها للنفس المعذبة والتي طالتها يد الحرب حتى أضحى الموت فيها حياة تقول:»
نزل كولادة على عشب العتب
ركض ليشتنشق يدين من ملح
كانتا من ريحان وملبّس
وأخريين صارتا مئذنة
بعد أن بترهما الحزن
وتتابع بقولها:» ساقته فراشات الندى إلى وثير الأماني /ومضاجع الأمس/ كانت حنفية دمه تنقط حياة/ … حتى (بروتوس) احتل فراشه!/ ابتلع عمره المهزوم وابتعد!/ قريبا من إلفة السياج/ كانت امرأة تبيع آخر هداياها / لتمرغ جبروت الحرب في الخيبة !.» لتختمها:» ثم … / غسل قدمي النشيد بالياسمين / ليبقى جبين العلم معصوباً بالغيم / واعتلى الحائط برشاقة موت …/ «.
هذه البساطة في المفردات والمعاني القابضة على الفكرة المسيطرة على الصورة لتسير بها بلهفة الأم للقاء ابنها القادم من حرب أخذته بكلتا يديها إلى حضنها المؤلم. قصيدة غنية بالمفردات التي تميزت بها الشاعرة بوضوحها وبساطتها وعظمتها في الارتقاء بالفكرة الحاضرة في قصائد الصمود والوطن هذه القسوة التي تعترك النفس بالتعب تظهرها قصيدة غروب مفردة «النصف كم» ـ وفي « تأن ياقلب» « عربش على سطح القصيدة» وفي « سرير الموج» « جيوب القصيدة ـ أكتاف القصيدة «. وصورها البديعية الغزيرة مستعيرة فيها إحدى صفات الإنسان لتشير بها إلى قصة ما على لسان الأشياء مثل (سهى التاريخ ـ شهق الموج ـ عين الخريف ـ لعاب القلم ـ أكواع صيف ـ حلق الطريق). وفي قصيدة» محض دواء» لتقول:» أسوة بالهاربين مع الموج/ بأصدقاء الموج / قلت أنزل صخرة الأسرار عن قلبي/ وأحررَّ الحكايات في عصمة الصعود/ فيتنكر ليَ الليل! / لم ترصد الحرب مكاني بعد / لتسبقني وترتشف / ماتبقى من كأس العمر/.
تظهر هذه الرمزية الناعمة والمنسابة كدفق الماء في قصيدة «سرير الموج» حيث يعلو جمر الشوق بكمه الطويل متسائلة كم ميل تبقى منه والليل في رعشته الأخيرة يلم ذيله وتبقى عندها القصيدة هي المتبقية والمليئة والتي بين يديها قائلة:» والقصيدة ـ هي السرير الوحيد المتاح ـ فافرد قلمك واحتضني ـ ناضج أنت بما يكفي لتعتصر عمري ـ بيتاً بيتاً .. ـ وعنبة عنبة !.ـ أسرعْ ـ قبل أن تمتلئ جيوب القصيدة ـ بالزبيبْ!.ـ « قد قامت القصيدة بحل ماعلق بينهما من أمور شائكة. فقد تستوقفك بنبضها ودفقها الممتلئ فتمتلئ من هذيانها وتطرب مستسلماً لنفحاتها الآسرة للقلب والعقل معا فتجد في قصيدة «الفكرة» مطلعها :»إله زاه يفطم ملائكة سلام ـ صلاة تعمل داية للأماني ـ في أوقات الفراغ ـ إلى ـ وهي .. ـ صيف عار يراود راهبةـ ليل يترنح بين الكروم ـ قمره في إجازة … إلى أن تختمها: هي الفكرة ـ تقدَّسَ سِرُّها!.».
وأغلب القصائد إن لم تكن جميعها تلمس فيها صرخة الشاعرة سعاد محمد في وجه هذه الحرب الملعونة على سورية في صورها ومفرداتها الغنية والمؤلمة التي تبرز فيها العاطفة الجياشة بمدى اللوعة لما يجري. رصاص الحرب يتسلسل جموح القصائد فتجده في الغدر والغصة مثل قولها:»الغصة من ذوي القربى رصاصة ثانية» ـ ولتكن نافذتي اليسرى التي أعماها الرصاص ـ كلما ترنحت بجوارها رصاصة ـ خافت أن تفقد عذرية الحب ـ يمشي على قلبها صهيل الرصاص». وفي قولها في قصيدة «غربة» :»وأدرك أن امرأة تكتب عن الحب في زمن الحرب ـ كمن تلبس فستاناً أحمر وخلخالاً على رصيف جائع؟.». وفي قصيدة «الخارج من الحكاية» تقول:»ابتسمت شامة صيف مخمور ـ على خدِّ ألف سنة من اللهفة». أما قصيدة «قلوب الأرض» تفتح بابها بقولها:» هذه الأقحوانة، ـ يا الله، كم تشبه ضحكة محمود ..!ـ ونتابع فيها قولها بآهات محزنة :» آه يابلد … كل شبر بولد..! هذه القصيدة الناقمة على الحرب الوحشية تقول أيضاً: «تلك الهندباء التي تقضمها الشمس ـ مواويل يوسف ـ يستضيء بها رفاقه ـ في حلكة الرصاص …ـ سقطت أوجاعهم هنا وأطعمتنا». وفي قصيدة أوراق يانصيب تقول:» فيتملح الجرح وتهنأ الرصاصةـأوه يا وطني من أنت .. من أنت ؟.». هذه الجروح البليغة مدعاة للتساؤل ما الذي يجري فيك ياوطني الجريح. وفي قصيدة «شادي وأنا». تعيد صياغة أغنية فيروز العظيمة «أنا وشادي» مستنجدة بخيوط حكاية شادي الحب والأرض والقصص الجميلة وتستجير به أن يعود قائلة:»عد ياشادي … عد من معتقل الحكاية! ـ العصافير بعدك هجرت مقاهيَ الصبح ـ وتماثيل الثلج أخذت للحرب ـ وسيقت الفراشات سبايا !.. ـ وتختمها ـ عد ياشادي ـ بعدك الأغنية أوصدت بوابتها خوفاً من الجوع ـ لارجلَ غيرَك يسدُّ رمق المعنى! «..
التاريخ: الثلاثاء21-12-2021
رقم العدد :1077