الثورة – لميس علي:
في أيلول من عام 1933 م، رفض الفيلسوف مارتن هايدغر عرضاً مغرياً بتعيينه أستاذاً لكرسي الفلسفة في جامعة برلين..
وسبب الرفض كان تفضيله الإقامة بكوخه في الغابة السوداء (عالم عمله) كما كان يدعوه.. المكان الذي شهد ولادة أهم نصوصه الفلسفية..
الأمر الذي فتح باباً للتساؤل عن العلاقة بين الفلسفة والمكان على وجه الخصوص، أو علاقتنا بالمكان/الأمكنة من حولنا عموماً..
فهل نحن الذين نؤثّر بالأشياء أم أن الأشياء هي التي تؤثّر بنا وبسير الأمور من حولنا..؟
من ضمن معاني الأشياء يدخل مفهوم المكان..
وغالباً المكان مؤثِّر فاعل بتفاصيل يومياتنا وليس بسير أحداثها فقط..
ماذا عن الأحداث في دائرة الأفعال الكبرى، الخارجة عن نطاق إراداتنا..؟
المكان وجود سابق، بينما الحدث فعل لاحق تابع للمكان.. ويجوز أحياناً أن يحدث العكس.
عرّف البعض المكان بالزمن الثابت..
وفعلياً تحديد إحداثيات وجودك يتوقف عليها الزمن الذي تحيا فيه..
وبالتالي لسنا جميعا نحيا في زمن واحد، إنما في أزمنة متعددة، مع أن التواريخ واحدة والفارق بينها بضع ساعات وفق منطق جغرافية المكان.
مسافة زمنية فاصلة بين مكان وآخر تنتج بالضرورة مسافة “فكرية”..
هل يجوز أن تكون الاختلافات بيننا ناتجة عن مسافات “فكرية”..؟!
وهل هي غير ذلك.
تحتاج ولادة الأفكار ذاتها بين شخص وآخر إلى فاصل زمني يختلف قياسه حسب الظروف (الزمكانية) التي تجمع الشخصين وفق منطق (الآن وهنا)..
وهذه (الآن وهنا) تمنح قاسماً مشتركاً بين الطرفين لكن لا يتوقف عليها وجود مشتركات أخرى ولا تلغي بالضرورة تلك المسافات “الفكرية” بينهما.
تصنعنا الأشياء وتحدد ماهية ذواتنا، بالضبط كما نصنعها نحن ونحدد وظيفتها لدينا.. لنصبح عبارةً عن خلاصة كل الأشياء والأحداث وحتى الأشخاص وأفكارهم، التي نخالطها.. فنغدو مزيجاً من كل هذا الخليط.
نحن نتأثر لاشعورياً بكل ما نحيا وإياه من موجودات حية أو جامدة..
ألم يذكر الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتني: “إني أرسم ذاتي… إني بذاتي مادة كتابي… ما صنعت كتابي على قدر ما صنعني كتابي”.
ما عناه مونتني بالكتاب هو الفكر/الأفكار، والأفكار هي النسيج غير المادي الذي يشكل وعينا، وبالتالي وجودنا..
فماذا عن ذاك الوجود المادي (الآخر) حين يكون توءماً لمختلف لحظات عيشنا..؟
ألا يغدو أكثر من مؤثّر وصولاً إلى مرتبة أعلى..؟
هل نمتلك شجاعة الاعتراف بكونه صانعاً، مشكلاً، ومكوناً لتفاصيل مغرقة في “ذاتيتها” لدينا..؟