الثورة – حسين صقر:
عندما يصبح الحاضر مؤلماً، والمستقبل مجهولاً، نهرب فجأة إلى الماضي، لعلنا نجد فيه ما يهدئ من روعنا، ويبعث في أعماقنا الراحة والهدوء، معللين أنفسنا بأن بعض المشاهد لاتزال جميلة حية في الذاكرة.
فقبل عشر سنوات كان للشتاء طعم مختلف، ولجلسات السمر فيه رونق خاص، فيه كانت تلتئم العائلة جانب المدفأة التي لاهمّ لنا إلا كيف نعبئ خزانها الصغير، إذ كان وقودها وافراً، وصوت مزمار بائعها يملأ المكان، موقظاً فينا الحيوية والنشاط، وإذا ما أردناه، ملأنا خزان الخمسة براميل ذا الصنبور الموصول إلى أقرب نقطة نجلس بها في المنزل.
تلتئم العائلة مساء، ورائحة الجوز والكستناء واللوز تنبعث عن سطحها، وفي فرنها المعدني إناء الطعام، فإما “صينية بالبطاطا”، أو” الكفتة” وجميعها غير مكلف، يأخذ الموظف ثمنها كما يقولون من جانب الجيب.
وإذا لم يكن مما ذكر، فإما نلتف حولها وكل منا أمامه صحن بزر “الميال”، أو كسرات الخبز المقمر، ونمزح ونلعب مع بعضنا، ويأخذ كل منا كسرات الآخر وصحنه، عندما ينفد ما أمامه.
الكهرباء أربع وعشرون ساعة، لا مدخرات “بطاريات” سائلة أو جافة، ولا شواحن، ولا كنا نعرف ما يسمى ب”الليدات”، ولا أي شيء آخر صنع من أجلنا قبل سنوات الحرب الإرهابية، فقد جهزوا كل شيء من هذه الحاجات، حصراً للسوريين، لأنهم على علم بما سيجري في وطننا.
قبل عشر سنوات، حتى عندما تنقطع الكهرباء نتيجة عطل بسبب الرياح أو العاصفة الثلجية، يحلو السهر أكثر، لأنه لاهموم تذكر، لا تفكير بالغد، سواء بأجور طالب بالجامعة ومصاريفه التي تتزايد، ولا بربطة خبز من أين سيأتي بها، ولا برسالة نصية تحمل لك خبراً” سارّاً” لاستلام اسطوانة غاز أو صفيحة بنزين أو مازوت، ولا تفكر أيضاً إلى متى سيكفي الراتب الذي تأخذه بيد، وتسد به ربع حاجاتك باليد الأخرى، منتظراً الفرج.
يحلو السهر على صوت الريح، ونقرات المطر، ويصبح المنظر جميلاً بتساقط الثلوج على النوافذ، وصوت الهواء البارد يعزف لحن الحنان، عندها يكون إبريق الشاي على المدفأة قد خُمر وأخذ لوناً قانياً، وطابت شربته.
يخترق الجلسة صوت أحد الحضور، اسمعوا هذه النكتة أو الطرفة أو المقلب الذي حصل معي اليوم، وتتعالى الضحكات منتظرين صوتاً آخر مع نهفة أخرى.
الجميع مندمج، متشوق لسماع بقية القصة، لا “واتس ولافيس ولا ماسينجر” ولا أي تطبيقات تجعل العائلة كل على سريره يسامر آخر يبعد عنه بحاراً ومحيطات، إما مهاجراً أو دفعته الحرب للغربة والسفر والمغامرة.
أيام على البال، نأمل أن تعود على أجنحة هذا العام والأيام القادمة، أيام لم نعرف حلوها، حتى افتقدناها، أسوة بشيء أو شخص أو حقبة، لم نعرف قيمتها عندما كنا نعاصرها.
قد يأتي شتاء آخر، ويلفظ الكون أنفاسه المتسربة بالأحلام، وتمسح شمس الانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري في كل مكان على الأراضي السورية بكُل لطف على جبين المستقبل، حيث الحنين إلى تلك الأيام ترتسم مشاهد عودته في الأفق، وسيبقى الشتاء فصلاً مدللاً له حكاياته ودفئه، وسيبقى برده ومطره وثلجه دافئاً حنوناً، وسيبقى ملهماً للشعراء والكتاب والمبدعين، وسوف تروي قطرات مائه كل عائد، وتنعشنه أنسام الرياح.