الملحق الثقافي:
يذهب الدكتورعبدالله عبد الدائم»رحمه الله» إلى القول: إن قلب مشكلة النظام العالمي ذات منشأ ثقافي أولا وقبل كل شيء، ومن الخطأ اعتبار الصراعات العالمية القائمة والتي سوف تقوم صراعات إيديولوجية أو اقتصادية بالدرجة الأولى، والانقسامات العالمية كما تدل تباشيرها سوف تكون أولاً وقبل كل شيء صراعات ثقافية المصدر، أن تعمل الإنسانية منذ اليوم على اجتنابها، وتصادم الحضارات هو الذي سوف يسود السياسة العالمية على حدّ تعبير هنتنغتون.. ويتابع الدائم قائلاً: والذي يعنينا منه -مقال هنتنغتون- أمران أولهما: أن نذكر أن النتيجة الأساسية التي أراد أن يخلص إليها هي دعوة العالم ولاسيما الغرب إلى مقاومة(الهجمة الإسلامية) على حدّ تعبيره وأنه عزز بذلك مواقف كثير من الكتاب الشوفيين في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وأيد مزاعمهم التي ترى في الإسلام العدد الشامل والكامل للغرب.
والأمر الثاني الذي يعنينا من هذا المقال هو أن ما جاء فيه حول صراع الحضارات(أياً كانت تلك الحضارات) نبوءة سوف تصدق في أغلب الظن إذا تابع العالم مسيرته الحالية ولم يستخلص من صراع الحضارات الذي بدت بوادره الدروس اللازمة لتحويل هذا الصراع إلى حوار بين الحضارات.
مخاطر الهيمنة الثقافية…
وأمام أمركة العالم فيرى د.الدائم أن الدعوة إلى ثقافة عالمية واحدة ووحيدة هي ثقافة الغرب بل ثقافة أكثر دول الغرب قوة نعني الولايات المتحدة هي مسألة المسائل في أزمة النظام العالمي ومستقبله، ولطالما استنكر المفكرون في العالم الثالث بوجه خاص، بل في العالم المتقدم أيضاً ولاسيما في أوروبا الدعوة إلى هيمنة الثقافة الأميركية وطراز الحياة الأميركي على العالم، مبينين ما في ذلك من اغتيال للعقول والنفوس وتسطيح الثقافة العالمية وصياغتها على نمط واحد وشاكلة واحدة، بدلاً من إغنائها بأنماط الثقافات المختلفة وقد أنكر هؤلاء المفكرون فيما أنكر أن تكون في العالم ثقافة نموذجية واحدة تعتبر قدوة لسواها ويجب على الثقافات الأخرى أن تلهث للحاق بها، مخافة أن تصبح متخلفة.
التفاعل هو المخرج…
أما عن المخرج من الهيمنة فيقول: لا يعني هذا أننا نقول بتفوق ثقافة على ثقافة، فالثقافات كطباع الأفراد لا تصدق عليها أحكام القيم، ولكل منها سماته وملامحه التي تجعل الفرد يفقد ذاته إن هو فقدها، ولكل منها عطاؤه المتفرد للإنسانية، وهذا العطاء يشتد خصوبة وغنى بمقدار ما يعبرّ عن الأصالة الثقافية لكل أمة وتقدم الإنسان نحو مزيد من الإنسانية لن يكون إلاّ بتفاعل حصاد الثقافات العالمية المختلفة وتبادل التجارب الفكرية فيما بينها وإخصاب بعضها بعضها الآخر.. وغني عن البيان أن مثل هذا التفاعل بين الثقافات العالمية ينبغي أن يؤدي في النهاية إلى تقارب عملي قوامه وضع مجموعة من الثوابت العالمية الثقافية التي ينبغي أن تعمل الثقافات جميعها على احترامها وتعميق جذورها وتوليد مثل هذه الثوابت وقبولها أمر ممكن إذا هو تم عن طريق الحوار الحقيقي وحلّ محل فرض (ثوابت) ثقافة معينة أو بلد معين على العالم كلّه، والإدعاء بأنها هي وحدها (الثوابت العالمية).
الدوائر الثقافية الثلاث..
يضيف الدائم الثقافة في ثلاث دوائر: الحق أن الواقع العالمي يحدثنا حديثاً واضحاً لا لبس فيه، ولا تعقيد عن أن ثقافة أي بلد من البلدان أو أي أمة من الأمم تضم دوائر ثلاثاً منداحة: الدائرة الأولى هي دائرة(الثقافة المحلية) التي لا تخلو من تنوع هو مصدر للغنى والخصب، والدائرة الثانية هي دائرة (ثقافة الأمة) أو الدولة المعنية بكاملها، وتضم أنماط السلوك المادي والمعنوي الخاصة السائدة لدى أمة من الأمم التي تميزها من سواها.
والدائرة الثالثة هي دائرة (الثقافة العالمية) التي تتفاعل مع الثقافة القومية وتغنيها وتمنحها القدرة على الحياة عن طريق تجديدها، والتقدم العلمي التقاني وثورة المعلومات والاتصال بوجه خاص وانقلاب العالم إلى قرية واحدة تؤدي كلها دون شك إلى اتساع الدائرة الثالثة، دائرة الثقافة العالمية.
الإبداع الذي نريده…
في الأعمال القومية(1957 – 1965) يتوقف د.الدائم عند قضايا ثقافية وفكرية مهمة وحول الإبداع الذي نريده يقول:
إن الجمهور عطش إلى الإبداع الحق، وإنه يعرف أن ينساق وراء من يهز أعماقه ويخاطبه بلغة الحياة، بلغة الحقيقة، بلغة الجدّ، أن الجمهور أيضاً يفهم أن الإبداع يكون بالتلاؤم مع مطالب الحياة الجديدة،يكون بسلوك سبيل رصينة جديدة في فهم مقتضيات المرحلة التاريخية التي تجتازها الأمة، ما هو (ببغاء عقله في أذنيه) على حد تعبير شوقي. إنه يستطيع أن يرى ولكنه في حاجة إلى من يعرض أمام عينيه ما يستحق أن يرى، وما يأسر نظرته وانتباهه… وأخيراً ليس المبدع من يأتي بالمعجزات أو ينتظر هبوطها، إنه من تحرر من قيود أسلوبه الذي ألفه وانطلق من إسار عاداته الفكرية للمستشرية وصارع ذاته وأنانيته العقلية لينخرط في حياة أمته ومجتمعه يقبس منها وحيه، ويدرك من خلالها حقيقة المهمة التي تنتظره، ومطالب المرحلة التاريخية التي عليه أن يحمل عبء قيادتها وتوجيهها… إنه كائن حي يساير منطق الحياة، منطق التكيف المتجدد، ويجعل من التكيف مع ما يرهص به المجتمع ويتوق إلى ظهوره شرعة إبداعه وموقد ابتكاره.
التاريخ: الثلاثاء18-1-2022
رقم العدد :1079