الملحق الثقافي:فاتن أحمد دعبول:
شهدت سنوات الحرب الأخيرة على سورية و العراق دماراً كبيراً وسرقة ونهب للكثير من الآثار، وهو ما أطلق عليه» كارثة ثقافية» وتؤكد الكثير من التقارير العالمية أن عدداً كبيراً من الآثار السورية والعراقية بات يتربع في غير متحف من متاحف العالم، ما يدلل أن السرقة والنهب وطمس معالم الحضارات كان من أهداف الحروب التي شنت على المنطقة، وخصوصاً على سورية والعراق.
وللوقوف عند أهم الآثار المترتبة على حروب الإبادة الثقافية كان لقاؤنا مع الباحث الدكتور إبراهيم زعرور:
أذرع ملوثة
ماهي أساليب الغزو على ثقافتنا وتدمير الحضارات التي يتبعها الاستعمار؟
هذا الموضوع اليوم من أخطر الموضوعات المرتبطة بتاريخ وحضارة وفكر وثقافة الشعوب، التي تعبّر عن الهوية والانتماء والخصوصية الوطنية والقومية والإنسانية.
فمن الصعب، بل من المستحيل أن يكون بإمكان الباحث أو الكاتب أو المختص الإحاطة الكاملة والدقيقة من خلال كتابة بعض الأفكار على عدد محدود من الأوراق والأمر يحتاج إلى كتابة مجلدات، وخاصة إذا أراد الباحث أن يوضح الحقائق دون تزوير وتزييف وسرقة ومحاولة تدمير وإبادة الثقافة التي تغيّر من حال الأمة ورسالتها الإنسانية.
وكما هو معروف أن الحرب لها عدد من الأذرع يستخدمها الاستكبار العالمي المسيطر عليه من القوى الصهيونية والماسونية ورأس المال الاحتكاري، سواء العدوان العسكري المباشر والاحتلال واتباع سياسة الإبادة والتدمير، أو استخدام الأدوات والعملاء والمرتزقة والخونة ومن في حكمهم.
والأمر الثاني :هو استخدام واجهات محلية وتمويلها وحملها على منصات إعلامية خطيرة جداً، وممارسة حرب الشائعات والحرب النفسية والأفلام الهوليودية غير الموجودة إلا في مخيلاتهم وأذهانهم وإرادتهم بتشويه القضايا الوطنية وإرادة الشعوب.
وثالثا :هناك الحرب الاقتصادية بالحصار الجائر وفرض العقوبات ومنع أسباب الحياة عن الناس، بل وسرقة ونهب الثروات الوطنية بشكّل مخالف للقانون الدولي والشرعية الدولية.
ورابعاً: وليس أخيراً، تدمير ذاكرة الأوطان من حيث التراث والحضارة والعمارة والآثار، بل وسرقتها والادعاء الباطل أنها أساس لوجود صهيوني في المنطقة، والذي تدلل على كل الحقائق العلمية والوثائق التاريخية والآثار على التزوير والتزييف، فالوطن العربي الموجود منذ آلاف السنين حسب الجغرافي الإدريسي، يعيش عليه العرب القدماء قبل الديانات التوحيدية ..
وثائق تاريخية
ما الحقائق التاريخية التي ندحض بها ادعاءاتهم؟
نقول: عندما جاء موسى الذين اتبعوه، كانوا من العرب، وتسميتهم العلمية» الموسويون» يعني أتباع موسى، وعندما جاء المسيح أيضا الذين اتبعوه، هم من العرب سكان الوطن العربي، وعندما جاء محمد» ص» الذين اتبعوه أيضاً هم من العرب، وبمعنى آخر، كلّ الديانات التوحيدية لأنبياء من العرب، وعلى الأرض العربية، والذين حملوا هذه الديانات كرسالة سماوية وإنسانية للبشرية جمعاء، وكلّ التاريخ في كلّ مراحله، يؤكد على ذلك وهم أي -الصهاينة -مع البعض من المستشرقين يحاولون القيام بتزوير التاريخ وتزييفه والادعاء الباطل أنهم أبناء المنطقة.
وإذا عدنا بذاكرتنا في التاريخ، يتضح لنا حجم الغزوات الإمبراطورية التي اجتاحت الوطن العربي وخاصة بلاد الشام» سورية الطبيعية» من اليونان والرومان والفرس والمغول والصليبيين» الأوروبيين، الفرنجة» والعثمانيين، ومن ثم الاستعمار الأوروبي الحديث، مع جريمة سايكس -بيكو 1916، وجريمة بلفور 1917، واقتطاع منطقة كيليكيا السورية لصالح قيام تركيا الحديثة بقيادة كمال أتاتورك، والتي تبلغ مساحتها بحدود 125 ألف كم2، ومن ثم اقتطاع لواء اسكندرون عام 1939م بالتواطؤ مع تاج الدين الحسيني وأمثاله، ومن ثم ما سمي بالمعاهدات من» سيفر» الأولى والثانية، وأنقرة الأولى والثانية وجنيف 1920، 1921، 1923، والتحالفات مع الدول الاستعمارية، بداية» فرنسا، بريطانيا» ولاحقا الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم الكيان الصهيوني بعد الإعلان عن جريمة احتلاله الاستيطاني لفلسطين 15 أيار 1948.
والمشهد اليوم يؤكد صوابية الوثائق التاريخية لوظيفة هذه الدول والأنظمة بعد الحرب العالمية الثانية، ولليوم، وأن ترجمة سياسة التوحش الغربي الأميركي الصهيوني ماثلة أمام العالم بعد مهزلة» برج التجارة العالمية» واحتلال أفغانستان 2001م واحتلال العراق 2003م والهيمنة على المنطقة وإنذارات أمريكا على لسان كولن بأول لسورية وحصار المنطقة بالكامل، واصطناع داعش وأخواته من التنظيمات الإرهابية، وتحريك القوى الرجعية العميلة، وتوظيف النظام الرسمي العربي لتدمير الدول الوطنية في سورية والعراق واليمن وليبيا وسواها بالكامل.
الآثار هدفهم
لماذا الآثار على وجه الخصوص؟
ولعلّ أوضح مثال على ذلك أن التركيز كان منصباً بشكل أساس على تدمير الذاكرة الوطنية» الآثار» والتي عمرها عشرات آلاف السنين للحضارة في بلاد الشام وحضارة بلاد الرافدين وحضارة اليمن، وبشكل ممنهج من التنظيمات الإرهابية وبإشراف الاستخبارات الأميركية والغربية والصهيونية والعربية.
والمثال على ذلك تدمر وآثار الرقة وإدلب وحماه والجولان» القنيطرة والمنطقة الجنوبية» درعا والسويداء» وكلّ المناطق الأثرية التي سيطر عليها الإرهاب وعمليات السرقة والتزوير والتزييف وكذلك نهب آثار العراق في المناطق في بغداد والموصل وكركوك وغيرها من أرض العراق، وتدمير حضارة وتراث اليمن وكل ما جرى ويجري منذ سنوات تحت ما يسمى الربيع العربي» الفوضى الأميركية» والتي لازالت مستمرة إلى اليوم بأساليب متعددة شيطانية كانت تستهدف خلق الفوضى التي تقود إلى حروب أهلية دينية وعرقية وطائفية ومذهبية وسواها، يترافق مع سياسات التدمير والسرقة والنهب والتزوير للآثار التي تعبّر عن هوية الحضارة والتاريخ كوثائق لا تقبل التغيير والتبديل مهما حاولوا ودمروا ونهبوا وسرقوا وزوروا وغير ذلك.
حضارات عريقة
تتالت الاعتداءات على أجزاء من الوطن العربي، ولكن هل استطاعوا حقاً وأد الحضارات العربية؟
في الحقيقة مازالت آلاف المواقع الأثرية السورية والعراقية واليمنية مدفونة في باطن الأرض، لم يتم التنقيب عنها وتحتاج لعمليات البحث والكشف والحماية، والتي تدلل على حضارة بلاد الشام والوطن العربي عبر تاريخ طويل لغزوات امبراطورية لم تنقطع، وإنما كانت متواصلة أرادت إبادة ثقافة وحضارة وتاريخ المنطقة بالكامل على صعيد الوطن العربي وخاصة بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن.
وكانت الغزوات الإمبراطورية عبارة عن احتلال استيطاني بالكامل وتغيير أو محاولة تغيير كل المعالم الآثارية والمعمارية والتراثية واستهداف للبشر والحجر وللفكر الإنساني الثقافي المعرفي العلمي، فمن محاولات اليونان والرومان إلى الفرس والمغول والأوروبيين والعثمانيين إلى الاستعمار الحديث والمعاصر مع قيام الحرب العالمية الأولى، ومحاولة أوروبا اقتسام تركة الرجل المريض» الدولة العثمانية» والتي شكّلت أخطر غزوة في تاريخ العالم والمنطقة.
وهؤلاء جاؤوا من أواسط آسيا لأرض ليست لهم، ولا علاقة لهم فيها، وإسقاط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، لأن الأرض هي سورية وأرمينية ويونانية وروسية، هذا تاريخ لا يقبل التأويل أو التبديل.
تحالفات عدوانية
ما دور منظمات حقوق الإنسان تجاه التحالفات العدوانية على الشعوب الآمنة؟
عندما اجتمعت الدول المتحالفة في الحرب العالمية الأولى في بطرسبرغ عام 1915» فرنسا، بريطانيا، روسيا القيصرية وإيطاليا» لتقاسم ممتلكات الدولة العثمانية ووضع نهاية لتاريخها المتوحش ضد كل الشعوب في المنطقة والعالم وحتى أوروبا وآسيا، تقوم فرنسا وبريطانيا بالالتفاف على ما اتفق عليه وتذهب إلى عقد اتفاق جريمة لازالت تلطخ جبين من يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية، ويتم الاتفاق بينها عبر وزيري الخارجية سايكس- بيكو 1916 وهي جريمة موصوفة تبعتها بجريمة أخرى، جريمة بلفور 1917م.
دول لا تملك وليس من حقها تقسيم العالم وفق مصالحها ومصالح الصهيونية العالمية إلى مناطق نفوذ لها وهيمنة وتسلط واستعمار، بالإضافة إلى قيام كيان تركيا الحديثة تحت إشرافها» فرنسا وبريطانيا» لاستكمال الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب من قبل الدولة العثمانية عبر الكيان التركي.
ونرى اليوم وظيفة النظام التركي في مشروع الفوضى الأميركي الصهيوني الأوروبي، وهي اليوم تحتل أراضي عراقية وسورية وأرمنية ويونانية وسواها، أمام المجتمع الدولي وبشكل مخالف لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وتتحالف بشكل أساسي مع الحلف الصهيو-أميركي ومع قوى الإرهاب تحت عناوين ومسميات دينية وعرقية ومذهبية وطائفية.
ولقد قام النظام التركي بالتنسيق مع الكيان الصهيوني بسرقة الآثار وتدميرها ونهبها ونقلها وتزويرها وتزييفها بشكل أو بآخر، سواء في العراق أو في سورية، وكذلك في اليمن عبر حروب عبثية شيطانية خارج القانون الدولي والأعراف الدولية، وخارج قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
تدمير الذاكرة الوطنية
كيف يتم تدمير الذاكرة الوطنية؟
إن حروب الإبادة الثقافية التي مارستها أميركا والصهيونية والقوى المتحالف معها والتي نعمل بإمرتها كمرتزقة وعملاء وخونة والتي يعبّر عنها إعلام محمول على آلاف مليارات الدولارات بقصد تدمير الذاكرة الوطنية والقومية الإنسانية للشعوب وخاصة في بلادنا خدمة للمشروع الصهيوني والذي لم ولن يكتب له النجاح مهما حاولوا القتل والتدمير والتهجير، لتغيير الملامح الأساسية لثقافة ولغة وعمارة وآثار المنطقة حتى في فلسطين.
وقد قامت الاستخبارات الصهيونية مستخدمة بعض العملاء والمرتزقة تحت اسم السياحة وغيرها، محاولة طمس بعض الكتابات الأثرية في مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وكذلك في الأردن بعد توقيع اتفاقية وادي عربة، وكتابة لغة عبرية وهي عملية تزييف وتزوير مكشوفة لأن القراءات العلمية تستطيع اكتشاف الكتابة الأصلية من كتابة التزوير وسواها.
واليوم نستطيع القول: إن بعض المحاولات نجحت في تحقيق بعض الأهداف ضمن المشروع الصهيو-أميركي في تدمير الكثير من البنى التحتية، وتدمير بعض الآثار وسرقة ونهب بعضها ومحاولة تزوير وتزييف البعض الآخر، وأيضاً نجحوا في الحصار الاقتصادي والعقوبات وفي السيطرة على بعض مصادر الدخل الوطني من النفط والغاز والقمح والقطن، ومصادر الطاقة المتعددة والمياه وسواها.
إرادة لا تكسر
كيف تواجه الشعوب حملات التدمير الممنهج؟
من المؤكد أنهم لم ولن يكون بمقدورهم كسر إرادة الشعوب خاصة في سورية والعراق واليمن وفلسطين وسواها، والمقاومة تقوم بواجبها ومسؤوليتها، وكذلك الدولة السورية لديها استراتيجية لا تقبل التبديل أو التغيير، سياسة طرد الغزاة من المحتلين الأميركان والأتراك والصهاينة عن كلّ شبر من أراضي الجمهورية العربية السورية، بما فيها الجولان السوري المحتل، والقضاء على كامل الإرهاب على مساحة أرض الوطن.
ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية كاملة غير منقوصة، مهما بلغت التضحيات، ولا خيار آخر، وفي كلّ المناطق التي تم طرد الإرهاب منها أيضاً بدأت الدولة تستعيد ترميم وإعادة هيكلة الآثار والأماكن التي دمرها الإرهاب، وأيضاً استعادة ما سرق ونهب من الآثار، وسياسة الدولة الاستراتيجية قائمة على عدم التنازل أو التفريط أو المساومة أو القبول إلا بوحدة المجتمع السوري بالكامل ومؤسسات الدولة السورية، وهو الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي يعبّر عن إرادة الدولة وتطلعات الشعب.
التاريخ: الثلاثاء15-2-2022
رقم العدد :1083