الثورة – عبد الحليم سعود:
شهدت العقود الثلاثة الماضية التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي نوعاً جديدا من الحروب الأميركية وصفت “بالناعمة” لتطويع الدول وقلب الأنظمة المناوئة لسياسات الهيمنة الأميركية حول العالم، وقد اصطلح عليها باسم الثورات الملونة، وقد اعتبرت تحولاً نوعيا في العقل الأميركي لتغيير العالم ورسم خرائطه من جديد، كنتيجة مباشرة للإخفاق الأميركي في حرب فيتنام والنتائج الكارثية والتكاليف الباهظة ماديا وبشريا وسياسيا التي نجمت عنها، حيث أجبرت تلك الحرب النخبة الحاكمة في واشنطن على البحث عن طرق أخرى لإسقاط الأنظمة المعادية لها. فقد عرف عن روبرت هارفي، الذي سبق له المشاركة في حرب فيتنام وعمل بعد تقاعده مستشارا متعاقدا مع المخابرات الأميركية إلى جانب عمله أستاذا في جامعة هارفارد، قيامه بتدريس المبعوثين من أوروبا الشرقية ودول العالم الثالث أساليب إسقاط الحكومات من خلال اللاعنف و”المقاومة” السلبية وأسلحة سيكولوجية واجتماعية واقتصادية.
وقد تعاون هارفي مع جين شارب وهو “مفكر صهيوني” في بورما عام 1992 من خلال تقديم توجيهات ونصائح “للثوار” الذين كانوا يقاتلون هناك منذ عشرين عاما لإسقاط النظام القائم، حيث تم تلخيص هذه التوجيهات والنصائح في 198 تكتيكا طبعت كمناشير بالانكليزية والبورمية قبل أن تجمع في كتيب تحت عنوان “من الديكتاتورية إلى الديمقراطية” الذي تحول بفضل المخابرات الأميركية إلى دليل عمل لما يسمى “الثورات الملونة” الذي ترجم إلى عشرات اللغات وطبع منه ملايين النسخ.
وفي نهاية العقدين الأخيرين من القرن العشرين توصلت الولايات المتحدة إلى فكرة أن تخريب وتدمير البلدان والشعوب المناوئة لها يتم بشيطنة أنظمتها وتثوير شعوبها وصناعة ثورات ملونة يتم دعمها بالمال والسلاح والإعلام فإما أن تؤدي إلى إسقاط النظام أو الدولة المعادية لواشنطن، أو أن تتحول الثورة المصطنعة وما تفرزه من صراعات داخلية إلى حصان طروادة أو أداة ومطية للتدخل العسكري وضرب وتفتيت البلد المستهدف.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين انتقلت هذه الصناعة “صناعة الثورات” إلى مرحلة جديدة متطورة وأصبح لها مراكز متخصصة مثل مركز “ألبرت أنشتاين” الذي أسسه الصهيوني جين شارب، وأصبح يطلق على هذه المؤامرات اسم الثورات الملونة.
ومن خلال دراسة العديد من هذه الثورات تبين أنها تقوم على منهجية مركبة تتشارك فيها العديد من الوسائل أهمها الإعلام وإلى جانبه وسائل التواصل الاجتماعي، والثقافة، حيث يصار لإحداث انقلاب حاد على ثوابت التفكير النمطية في المجتمع، والاقتصاد والسياسة والاجتماع، من أجل تهيئة الأجواء للانقلاب المطلوب.
ويعتمد مخططو الثورات الملونة على ثلاثة عناصر رئيسية:
– امتلاك زمام المبادرة: فأنظمة الحكم والأمن في الدول التي تضربها هذه الثورات هي بالعادة لا تملك منهجيات جاهزة لمقاربتها أو مقاومتها لأنها لم تعتد على هذا النوع من التحديات التي يتفاعل فيها، بوقت واحد، الإعلام والثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة.
– التركيز بشكل مكثف وعلمي على الثغرات الموجودة في أنظمة الحكم والبلدان المستهدفة بالثورات الملونة: كالفساد وتردي الوضع الاقتصادي ونقص الحريات، مع المبالغة في تصوير حجم كل منها.
– توظيف الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كمرشد لهذه الثورات الملونة .. وجعل الحدث المحلي الخاص بحصول ثورة ملونة في أي بلد بمثابة حدث عالمي.. ما يؤمن غطاء قانونياً وسياسياً ودولياً للمحتجين “الثوار المزعومون” بغض النظر عن أعدادهم إن كانت صغيرة أو كبيرة.
ولعل أبرز ما يحدث عقب اشتعال هذه الاحتجاجات بحسب ما رأيناه في بلدان كثيرة مثل لبنان وتونس ومصر وليبيا واليمن والسودان وأوكرانيا وبلدان أخرى، هو نقل البلد من حالة الاستقرار إلى حالة فوضى بحيث تتمكن الولايات المتحدة من التدخل بشؤونه والسيطرة عليه إن أمكن، أو عبر جعله بحاجة لوصفات سريعة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة من قبل البنك الدولي والمؤسسات المالية الغربية المرتبطة بواشنطن، وذلك لبقائه على قيد الحياة، وإما أخذه إلى فوضى عارمة وتحويله لشركة مفلسة أمنيا وبنيويا ما يسمح لواشنطن بوضعه على طاولة التقسيم.
وقد طبق هذا الأسلوب في دول شرق أوروبا مما مكن واشنطن وحلف الناتو من الوصول عسكرياً إلى حدود روسيا والمثال الأقرب هو أوكرانيا، كما طبق هذا النوع من الثورات في أميركا اللاتينية من أجل السيطرة على ثرواتها والمثال الأقرب هو البرازيل وفنزويلا، كما عانت المنطقة العربية إجمالا من هذه الثورات كما أسلفنا تحت ما يسمى “الربيع العربي” مع الأخذ بعين الاعتبار تركيز الولايات المتحدة على ضمان أمن “إسرائيل” وبقاء احتلالها للأراضي العربية وجر الدول العربية واحدة تلو الأخرى من أجل التطبيع معها.
ويعد المفكر الأميركي الصهيوني ”بيرنارد لويس” أبرز مخططي التغيير في الشرق الأوسط وأبرز الداعين لتقسيم الدول العربية وتفتيت المفتت منها، وإقامة دويلات صغيرة ومتناحرة فيما بينها، وذلك على أساس ديني وطائفي، والهدف الأساس للويس هو إفساح المجال للكيان الصهيوني كي يكون صاحب اليد الطولى والأقوى في المنطقة، وكلام لويس يتطابق تماما مع ما قاله أمين عام المنظمة الصهيونية العالمية “أوديد ينون” الذي نشر في عام 1982 في مجلة “كيفونيم” في وثيقة حملت عنوان “استراتيجية إسرائيل للعقود القادمة” التي نص مضمونها على تخريب الدول العربية عن طريق الصراعات الدينية والفكرية.
وقد تم تطبيق هذه الأفكار في أحداث “الربيع العربي” حيث نصب صهيوني آخر هو بيرنارد هنري ليفي نفسه راعياً فكريا وعراباً لهذا الربيع الأسود.
وكانت سورية على قائمة الاستهداف الأميركي بالنظر إلى موقعها في الصراع العربي الصهيوني، وحينما فشلت واشنطن بإسقاط سورية أو تحويلها إلى جورجيا أو أوكرانيا ثانية، حشدت مجموعة من دول المنطقة والدول الغربية لتشن عليها حربا عسكرية إرهابية هائلة استخدمت فيها عشرات الجماعات والتنظيمات الإرهابية التكفيرية، ووصل بها الأمر إلى التدخل العسكري المباشر، لكن هذا النموذج من ثوراتها الملونة سقط في سورية بموانع جيوسياسية وعوامل ذاتية وصمود سوري منقطع النظير إضافة إلى دعم روسي وإيراني وصيني.
غير أن الولايات المتحدة لم تتخل بعد عن هذا الأسلوب الخبيث في العدوان والهيمنة والتدخل ومازالت دول عديدة حول العالم في مرمى الاستهداف الأميركي من أجل تغيير وقلب أنظمتها بما في ذلك دول عظمى كالصين وروسيا.