الثورة – هفاف ميهوب:
يشير الكاتب والأديب الكولومبي “ماركيز” في مقاله: “الصحافة أفضل مهنة في العالم”، إلى أن “هذه المهنة كانت وقبل اختراع آلة التسجيل، تمارس على أفضل وجه، وبثلاث أدواتٍ لا غنى عنها: دفتر الملاحظات، وأخلاق محصّنة لا تتزعزع، وأذنين ما زال كتّاب التحقيقات يستخدمونها لسماع ما يقال لهم..”..
هذا ما أشار إليه هذا الكاتب الذي كان يرى بأن هذه الآلة “ليست بديلاً للذاكرة، وإنما تطوير لدفتر الملاحظات الذي قدّم خدمات طيبة في بداية المهنة”.
أعتقد بأن غالبية الصحفيين يوافقونه هذا الرأي، بل وكونها أيضاً: “آلة التسجيل تسمع ولكنها لا تُصغي، تسجّل ولكنها لا تفكّر، ووفيّة لكنها بلا قلب، ولايمكن في نهاية المطاف لنسختها الحرفية، أن تكون موثوقة، مثل من يركّز اهتمامه على كلمات محدّثه الحيّة، ويقوّمها بذكائه، ويقدّرها بأخلاقه..”..
اليوم، ونحن نرى بأن غول العولمة قد سيطر على عملية التواصل والتأثّر، وجعلها عبارة عن ذبذبات لا تشعر ولا تعنيها الفكرة والحدس وتأثيراتهما العقلية والإنسانية.. اليوم لانوافق على كلام “ماركيز” فقط، بل ونتساءل:
إذا كانت آلة التسجيل ببساطة إمكانياتها، قد أفقدت الذاكرة ودفترها مكانتهما وأهميتهما، فما الذي فعلته التكنولوجيا باتساعِ فضائها، وتطور أساليبها وإمكانياتها، ليس بالدفتر والآلة الحاسبة فقط، بل وبذاكرة الصحفي ومصداقيّته وثقافته وصوت الحقيقة المرفوع بأخلاقياته؟..
سؤالٌ ليس بحاجةٍ إلى إجابة، في هذا الزمن الذي باتت جميع وسائل الاتصال فيه، هي ذاكرة الحياة المبرمجة بأحدث وأخطر الوسائل والأدوات التي ألغت التفكير وأفقدت الكلمة رونقها وحدسها وأثرها..
الأخطر من هذا، وكما دلّ عليه “ماركيز”، هو أن “هذه المهنة لم تتوصّل إلى التطوّر، بالسرعة نفسها التي تطوّرت بها أدواتها، فقد ظلّ الصحفيّون يبحثون عن الطريق، بالتلمّس في متاهة تكنولوجيا بلا ضوابط، ولا تمنحهم حماسة التفكير، ومواصلة التعلّم والتعليم”..
إنه حال المجتمعات عموماً، حيث اختفت المهنية والمصداقية، وأثر الكلمة المكتوبة ورائحة حبرها التي كانت تفوح من الصفحات الورقية.. اليوم وللأسف “التواصل مع الظواهر الفلكية” أسهل من التواصل مع قلوب القرّاء، وقضايا الناس، واحتياجات الفقراء.
هو فقدان الأنسنة الذي يحتاج لمن يوقف تهوّره، وعبر دعوة كلّ صحفي، إلى إحياء ذاكرته، والاعتماد على ثقافته ومصداقيته ومهنيّته.. الأهم، معرفة أن الصحافة هي وكما وصفها هذا الكاتب المتمرّس:
“شغفٌ لايرتوي، ولا يمكن لها أن تُؤنسن بمواجهتها الواقع بصورة مواربة.. لا يمكن لمن لم يعشها أن يتخيّل العبودية التي تتغذّى على طوارئ الحياة، ولا أن يتصوّر مجرّد النبض الخارق للخبر، ولذّة السبق، ودمار الفشل الأخلاقي.. لايمكن لمن لم يولد لأجلِ هذا، ولمن ليس مستعدّاً للموت من أجله، أن يواظب في هذه المهنة النهمة للمصداقيّة، في أشدّ المواقفِ وجعاً وإيلاماً..”.