الثورة – هفاف ميهوب:
من البدهي معرفة، أن أكثر ما نحتاج لتناوله في الحروب والأزمات، قضية الثقافة ودورها التربوي والتوعوي، ذلك أن الامتناع عن الخوض في هذه القضيّة، يُعتبر بحدّ ذاته أزمة قد لا يشعر كثرٌ ممن يعتبرونها لا تلغي معاناتهم، ولا تلبّي متطلباتهم، بمقدار ما يعكسه إهمالها وتردّيها، من عجزٍ وجهلٍ وفسادٍ وتخبّط وعدميّة..
هنا يتكاثر الفراغ في المجتمعات، وبالتالي الملل الذي تتكاثر بتكاثره الثقافة الاستهلاكية، وكذلك العنف وانعدام القيم والمبادئ الأخلاقية.
إنه ما تكاثر فعلاً، وما نلاحظه يترافق مع التطور المذهل للتكنولوجيا، والانتشار المرعب لأدواتها التي يسعى صنّاعها ومروّجيها، لجعل هذه المجتمعات تفقد سلامة تربيتها، ثقافتها، عقولها وخبرتها.. ليس ذلك فقط، بل أيضاً مشاعرها وحاجاتها وامتيازاتها، والأخطر أنسنتها..
هكذا تنزلق هذه المجتمعات، نحو منحدرات لا تجد من ينقذها منها بعد أن فقدت وعيها وعقلها.. لاتجد سوى ثقافة الاستهلاك التي جعلت الناس وعلى رأي أحد الفلاسفة: “يتعرفون على أنفسهم في سلعهم”..
هذا ما آل إليه حال المجتمعات عموماً، ومجتمعاتنا خصوصاً، بعد أن استُهدفت لغتنا وعقولنا وحضارتنا بأخطر الأسلحة التقنية.. تلك التي فتّتت الثقافة واغتالت العقل، وهو أسوأ ما يمكن أن يصيب المجتمعات، لأنه وعلى رأي الشاعر والمسرحي الأمريكي “ت.س. إليوت”: “التفتيت الأكثر جذرية، والأكثر جدية، والأصعب إصلاحاً”..
أعتقد بأن علينا وفي هذه الحال، أن ننبّه إلى ما نبّه إليه الفيلسوف الألماني “نيتشه”، عندما حذّر من لحظات الانعطاف التاريخية التي تتجلّى في صراعات، تجعل الحياة أشبه بالغابة.. لحظات التطوّر التي وجدها تترافق مع حركة هائلة للتدمير، بسبب الصراعات والأنانيات المتعارضة والمتصارعة والمتفجّرة:
“احذروا من التقدم التكنولوجى الذى لا غاية له إلا لذاته… احذروا من حركته الجهنمية التى لا تتوقف عند حدٍّ.. سوف يولد فى المستقبل أفراداً طيّعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات.. احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال، والإنتاج الذى يستهلك نفسه بنفسه.. احذروا من عصر العدمية الذى سيأتى لا محالة..”..