الثورة – هفاف ميهوب:
منذ ظهور الفلسفة، ومفهوم الأخلاق يتعرّض إلى تفسيراتٍ جدليّة، ورؤى تختلف في تناولها لهذا المفهوم الذي كان “نيتشه”، من أكثر فلاسفة العالم نقداً للفلاسفة الذين قدّموه بأسلوبٍ تقليدي مشوّه، لا منجز عظيم كما اعتقدوا، وكان يرى بأن هناك فرقاً شاسعاً بين صلف وبلادة من يدّعي هذا الإنجاز، وبين سحرِ ما أبدعه “عازف ناي”.
لم يكن هذا العازف لديه، سوى “صاحب الأنامل التي لا تؤذي أحداً”.. “شوبنهور” الذي كان معلّمه، في بداياته على الأقل، والذي استنكر تصنيفه كمؤسّسٍ لفلسفة التشاؤم لطالما، أطربه عزف حكمته: “لاتؤذِ أحداً، بل ساعد كلّ واحد بقدرِ مافي وسعك”…
نعم، لقد أنكر “نيتشه” هذا التصنيف، معتبراً أن “شوبنهور” يختلف في عزفه الفلسفي عن فظاظة باقي الفلاسفة، ممن اعتبر أن بعضهم اختير اعتباطاً، والبعض الآخر مصادفة، ومن خلال محيطهم وطبقتهم وروح عصرهم ومناخهم وموقعهم الجغرافي والديني..
إنه ما جعله دائم السخرية منهم، ومن مزاعمهم التي دفعته لمواجهتهم:
“هناك أنماط أخلاق، تساعد صاحبها على أن يَنسى، وأخرى على أن يُنسى، هو وكلّ مايتعلق به، وأنماط أخرى تطمئِنه، وتجعله راضياً عن نفسه، وأخرى يريد بها أن يصلب نفسه ويذلّها، وأخرى يريدها لينتقم، وأخرى ليختبئ، وأخرى ليطلق سلطانه ويفرض مزاجه، ويضع نفسه خارجاً وعالياً وبعيداً..”..
لم يتوقف “نيتشه” لدى هذا الحدّ من الوصف والسخرية، بل حمّل معوله النقدي، وسعى لهدم كلّ ماكان سائداً في عصره من قيمٍ الأصنام، ولاسيما الدينية التي وجدها بالية، ومتجذرة في تفاصيل الفكر البشري.. الأوثان الفكرية التي سعى إلى تحطيمها لقناعته بأنها “غير أخلاقية”..
فعل ذلك معلناً بأنه لن يلتفت للطابور الذي خلفه، بل ويرفض وجوده في ظلّ واقعٍ وجد فيه: “الإنسانية قد عاشت على عبادة الأصنام.. أصنام في الأخلاق، وأصنام في السياسة، وأصنام في الفلسفة..”..
التالي