الثورة – رنا بدري سلوم:
“على الناقد أن يقف أمام مبدعاتِ الفنّ موقف المتعبّد، لا موقف القاضي، ولا موقف الناصح، وما الناقد إلا فنان آخر يحسّ ما أحسّه الفنان الأول، فيعيش حدّسه مرة ثانية، ولا يختلف عنه إلا من أن يعيش بصورة واعية ما عاشه الفنان بصورة غير واعية”، استحضرني قول الفيلسوف كروتشيه وأنا أقرأ بصورة واعية ديوان ” الريح أزميل الإله” للشاعر الزميل قصي ميهوب، فما إن قرأت مقدمة الديوان حتى شعرتُ أني في حضرةِ آلهة حياة وأنثى مطر، فتاء التأنيث تفعل فعلها حين تصبح عقيدة مقدّسة تغرف أفكارها من معين الشعر والفلسفة حيناً، وأحياناً أخرى تبيعُ الغيبَ للمغيّب فكرياً!.
إشكاليات استعرضها ميهوب تحثك على التفكير للانعتاق من كان وأخواتها، وإذا الشرطية، ليتسع الأفق بحريّة المشهد الشعري والبنى الدلالية المدهِشة في قوافيه، شارحاً “ميهوب” بودّ الصديق معضلات معارضة لكل جديد يبدعه الإنسان، وكيف أن العبادة لا تتعارض مع الشعر، ليؤكد في مخاطبته للقارئ “إن كنت لا تعلم وأنتَ تعلم كان الشعرُ وما زال بريئاً من حمل السواطير لنشر أفكاره لأنه مخلوقٌ نورانيٌ يدخل عوالم الإحساس والشعور مكوكباً بالأخلاق الإنسانية رافضاً التحزب” في نهاية مقدمته التي باتت مثقلة بالأسئلة التي يصعب تدويرها برأي، يأمر القارئ ” دع أزاميل العقائد كلها وكن كالريح إزميلَ إلهٍ عظيمٍ ينحتُ الجمال على مرأى بشاعة الإنسان”.
مجموعة شعرية تعصف بك كريح، تنطلق بك بجموحِ الخيال والتفرّد وهنا يكمن الإبداع، فليس بجديد على شاعر قد قدّم ديوانه السابع عشر أن تعرف أبجديته وإن أغفلت اسمه عنها، يكتب كما يعيش ويفكر في آن، هكذا يوحي إليكَ، يعيش على ضفّة التأمل كملاحِ جويّ يتتبع حركة الرياح يرمق الحياة بعظمةِ التساؤلات الوجودية، أين أنا.. ولماذا أنا.. وماذا بعد؟! وهو لا يعلم أنه على الضفّة الأخرى من العاشقين من يتتبعوا غواية الشعر كإله كوطن، وربما كمنفى، فيكتب بحريّة بعذرية الطبيعة وبوعظ الحكيم وبانفعالية العاشق ليعلن الشمس درباً لأبجديته والقمر شاهداً على ظلِ سمائه.
وفي عرضٍ لبعض نصوصه يستشهد الشاعر قصي ميهوب بكتاب العهد الجديد إنجيل متى ” لا تعطوا القدس للكلاب ” فيكتب في نص “أحفاد الأفاعي”:
ألا يا أمّةَ السوري قُومي
فهذا الدين شلّ نياط قومي
على التكفير نحيا قبل موتٍ
جحيماً بسم جنّات النعيم ِ
فيا أمّ الحروفِ: زرعتِ فينا
كراماتٍ من العصر الأمومي
فعودي شمسَ” عشتار” وثوري
على الدين المكنّى بالقويم
دعيني أعيشُ حراً مثل رمزٍ
على شرعِ السنابلِ والكرومِ..
جريء كما اعتدناه، يهشّ على خرافِ الجهل بعصا الأخلاق، ويتقمّص الأنا المركبة كي يستفيق الضمير من الانفصام المتفشّي حولنا، فيتساءل “من أنت” يحكي فيها لسان حال من درجَ على تقديس المدنّس وتدنيس المقدّس، فيجيب :
أنا ابن المدنّسِ والدنيسِ
نفاياتٌ التخلّف من طقوسي
يقلبني بنارِ البغضِ حقدي
تقلّبِ أرقطٍ تحت الشموسِ
أنا الشيطانُ خذ عني فإني
باسم الله أدخلُ في النفوسِ.
وإن كان لابد من الأنثى فإنها الثورة والثروة والحبّ المقدّس غير المشروط، الأنثى صراط الذين أنعم الحبّ عليهم بالهدى والتقى، فيحقّ للشاعر ما لا يحقُ لغيره فيجسدُ الألوهةُ امرأة، في نص بعنوان “إلهة الشعرِ” :
تغازلُني
بآهاتِ الجمالِ
مغازلةَ الغزالةِ للغزالِ
وتعرفُ أنني
من حيث أسعى
فريداً لست فرداً في الوصالِ
إليها ..أهتدي وبغير قصدٍ
أفرُ من الهداية للضلال.
لنتتبع النور والإحساس التائه الذي يفتح لنا آفاق الحياة والمناجاة، ولنعش حاضرنا، هي أكثر من وصايا يعلنها، في نص “نينوى”: ذِكر الحضارة تأنيبٌ لحاضرنا ..إن لم نعش فيها مات الذي فيها.
ولا ننسى “أم الزّلف ” من نوع الزجل التي حجزت لنفسها مكاناً مهماً في ديوان “الريح إزميل الإله” طباعة دار بعل والذي اختتم فيها الشاعر تساؤلاته كما بدأها.
وقالوا الشعر ميزان الفهيم
حكمة إله وصرخة قيامة
الشعر موقف للكرامة والكريم
وشو نفع الشاعر الما عندو كرامة؟!
