الملحق الثقافي: ديب علي حسن :
المكان أول شهقة حياة أطلقتها، وأول بكاء وأول شعاع نور لفح عينيك وجسدك ..إنه بصمة الأرض في قلبك وعقلك وكلك عرفت ذلك أم لم تعرف.
المكان، هويتك جذورك، تاريخك، إنه مسقط الرأس الذي حسب نواميس الحياة تظل تحن إليه.
وأينما ابتعدت ومهما تناءت بك المسافات تحمله معك مهما كان قفراً يابساً..
ليس هذا من باب الإنشاء أبداً إنما في العالم كله هذا وفي عوالم الطيور ترى ذلك أيضاً تهاجر وتقطع آلاف الكيلو مترات ولكنها تفرد جناحيها وتعود إلى حيث الموطن الأول.
وتعرفون حكاية ميسون الكلبية التي تزوجها معاوية، وأتى بها من خيام البادية إلى قصور الشام لكنها ظلت تحن إلى ربوعها حتى سمعها ذات يوم تردد:
لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـه
أحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِ
وأصــواتُ الريــاحِ بــكــل فَــجٍّ
أحــبُّ إلي مــن نَــقْـر الدُّفـوفِ
وبـكْـرٍ يـتْـبَـعُ الأظْـعـانَ صَـعْبٌ
أحـــبُّ إلى مـــن بَــغْــلِ زَفُــوفِ
وكــلبٌ يــنــبـح الطُـرَّاق عـنّـي
أحـــــبُّ إليَّ مـــــن قِــــطٍّ ألوفِ
ولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنـي
أحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِ
وأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتي
أحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِ
وخَــرْقٍ مِـن بـنـي عـمـي نـحـيـفِ
أحـــبُّ إليَّ مـــن عِــلْجٍ عــليــفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى
إلى نـفـسي من العيشِ الظَّريفِ
فـمـا أبْـغـي سوى وطني بديلا
فـحـسـبـي ذاكَ مـن وطـن شـريِـف.
وحب الديار ليس حب الحجارة والتراب فقط إنما حب ما عاشه ويعيشه الإنسان فيه وهذا ما عبٌر عنه مجنون ليلى بقوله:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى
أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي
وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا.
ملفنا اليوم يفتح نقاشاً من كوة صغيرة حول المكان ودوره عبقريته كما تحدث عنها المصري جمال حمدان ..
المكان في الإبداع شعراً رواية فنا المكان مقهى ورصيف وغابات وغير ذلك ..ماذا لو تم اقتلاعك منه …؟ أقرأ مذكرات الراحل إدوارد سعيد (خارج المكان) لتعرف مقدار ما يحل بك من ألم ..
المكان وعاء الزمن ولا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمن.
إنها معادلة الزمنكانية فماذا في طياتها ..انها إضاءات سريعة بمجرة بلا حدود.
d.hasan09@gmaiL.com
التاريخ: الثلاثاء5-4-2022
رقم العدد :1090