في ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل قيام الكيان المؤقت عام 1948، صرح بن غوريون للصحافة الأمريكية، أول وأهم رئيس وزراء لكيان العدو، بأنّ عصاباته لاتنوي السيطرة على القدس الشرقية، لأنّ هذا سيعني فتح أبواب جهنم، ثم كرر ذات الموقف في خمسينيات القرن الماضي بعد قيام الكيان، وصولاً إلى الستينيات وقبل النكسة، حيث كان متقاعداً، حيث وجهت إليه الصحافة العبرية سؤالاً حول القدس الشرقية، فسألته عن موقفه من طفلٍ صهيوني يحلم ويغني في الهيكل، فقال فليغنِّ وليحلم لا أستطيع منعه، ولكن لوحده، وبالرغم من ذلك فبن غوريون هو من أعلن القدس عاصمةً أبديةً لـ”إسرائيل” في خمسينيات القرن الماضي.
وقد استخدم القدس كلفظٍ يحتمل الغربية والشرقية معاً، أو الغربية وحدها، وكأنّ بن غوريون كان يتنبأ بأنّ العبث بهذه البقعة بالتحديد، هي فتحٌ لأبواب الجحيم حسب تعبيره، وحتى بعد النكسة عام 1967، واحتلال القدس الشرقية، وسكرة القوة التي شعر بها الكيان المؤقت، منع موشيه دايان اليهود من الاقتراب من باحات وحرم الأقصى.
حتى الولايات المتحدة ظلت تتجنب نقل السفارة الأمريكية للقدس منذ سبعينيات القرن الماضي، لأنّها تدرك خطورة الأمر، إلى أن جاء ترامب وفعلها.
ولكن في ثمانينيات القرن الماضي بدأ حزب”الليكود” بطرح فكرة التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي، والتقسيم الزماني يعني تقسيم الوقت بين المسلمين واليهود، وبما أنّ اليهود لديهم أعياد على مدار السنة، تصل إلى مئة يوم، فهذا يعني أنّهم يريدون الأقصى فارغاً من المسلمين مدة مئة يومٍ في السنة، مضافاً إليها كل أيام السبت على مدار العام، وكذلك كل الأوقات بين صلوات المسلمين، أيّ من السادسة صباحاً للحادية عشرة ظهراً، ثم من الواحدة ظهراً للثالثة عصراً، وكذلك من الرابعة عصراً حتى دخول وقت صلاة المغرب عند المسلمين.
أمّا التقسيم المكاني، فهو اقتطاع أجزاءٍ من الحرم القدسي، يحظر على المسلمين دخولها طوال أيام السنة، فهي خالصة لليهود، وهناك سابقة حصلت لهذا التقسيم في الحرم الإبراهيمي في الخليل، وذلك بعد مجزرة باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي، حيث اتخذتها”إسرائيل” حجةً لما سمّته الفصل بين العرب واليهود، حرصاً على عدم تكرار تلك الأحداث الدموية.
وقد يكون الإصرار”الإسرائيلي” على ممارسة عنجهية الاقتحامات، للوصول إلى لحظة المجزرة، لتكون السبيل لتنفيذ مخطط التقسيم الزماني والمكاني، ولكن المشكلة التي يواجهها الكيان المؤقت، أنّ موقع القدس ورمزيتها لدى كل العرب وكل المسلمين، تختلف جذرياً عن الحرم الإبراهيمي، كما أنّ تنفيذ التقسيم في تسعينيات القرن الماضي، كان في ظل ظروفٍ وبيئةٍ استراتيجية مختلفة تماماً عمّا هي عليه اليوم، حيث يعيش الكيان المؤقت هواجس الزوال، وهو ما يُفسر الخشية من الذهاب بعيداً في التحدي.
إنّ الكيان المؤقت يحاول تحقيق ذلك الهدف، عبر الاحتماء بالضغط العربي والإسلامي، للمطبعين على فصائل المقاومة، دون الحاجة كما يعتقد للدخول في مواجهةٍ غير مأمونة العواقب، ولكن قد تنجح الضغوطات في كل مسألةٍ سوى المسّ بالواقع القائم في القدس.
بعد جولة ليلة الأمس، ودخول سلاح جديد للمقاومة إلى الميدان، وهو المضادات الأرضية، لم تعد الحرب الإقليمية هي هاجس الكيان الأوحد في حال المساس بالقدس، بل ستصبح غزة وحدها هاجساً يؤرق جنرالاته، لذلك سيحاول الكيان البقاء في منطقةٍ وسطى بين الاقتحامات المتكررة، وبين منع كسر الخطوط الحمراء، وذلك حتى يجد مخارج لمآزقه المتلاحقة.