الملحق الثقافي – نبيل فوزات نوفل:
علم إدارة الأزمات هو علم المستقبل، وعلم تحريك الثوابت وقوى الفعل في المجالات الإنسانية كافةً، وتجنب الانهيار التام في التوازن داخل الدولة، والتوفيق بين الحاجة إلى حماية المصالح المعرضة للخطر والرغبة في تجنب التصعيد غير المرغوب فيه للأزمة، وتأمين الأهداف الأساسية والعمل على عدم خروج الموقف عن نطاق السيطرة.. وامتلاك الاستراتيجية التي تنطوي على عناصر أهمها التدبير، والتفكير، والإرادة، والاختيار، وعلى العمل، وهي تتميز جميعها بالشمول، والتكامل، والمرونة، في مواجهة احتمالات التغيير، وفي تبدل الواقع وأحواله..وتلعب الثقافة دوراً كبيراً في حل الأزمات ليس فقط على الصعيد المحلي، بل على الصعيد الدولي، حيث الثقافة تعد من أهم الروابط التي تجمع البشر خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها الإنسانية، حيث فرضت العزلة على الإنسان أن ينصت إلى العالم محاولاً فهمه واستيعابه، ثم معاودة التواصل معه من جديد، فالثقافة قادرة على توحيدنا أكثر من أي وقت مضى، باعتبارها قيمة معبرة عن وجود الإنسان وواحدة من أهم معاني حياتنا..وكما تؤكد الوقائع أن الأزمات والكوارث تؤثر سلبياً على الثقافة كما فعل فايروس كورونا، والحروب التي شهدتها المجتمعات البشرية، وآخرها الحرب العدوانية على سورية، حيث تم تدمير الكثير من مواقع التراث العالمي، ومنع زيارتها ،وارتفاع اسعار الكتاب، وتعثر النشر والتوزيع، وغير ذلك وإن كان للاقتصاد الرقمي دور في التخفيف من تأثير الأزمات على الثقافة.
حيث بات بمثابة الوسيلة الوحيدة للحياة الآن، وتفاعل معها العديد من الفنانين والمبدعين الذين أحيوا حفلات فنية من منازلهم، مستفيدين من التقنيات التكنولوجية الحديثة، وكما نعلم إن جائحة كورونا ليست هي الخطر الأول من نوعه الذي يترك آثاراً سلبية؛ حيث خلَّفت الأزمة العالمية وحالة الركود الاقتصادي عام 2008، آثاراً سلبية للغاية على المؤسسات الثقافية.
تواجه المجتمعات البشرية خلال مسيرتها الكثير من الأزمات، وعلى قدر امتلاكها فهم طبيعة هذه الأزمات وفهم خطورتها وتحديد الأولويات والحلول الإسعافية والاستراتيجية، وامتلاك الوعي من القيادات المسؤولة من جهة والوعي الشعبي تكون المعالجة ناجحة أو فاشلة ومن هنا تبرز أهمية الثقافة ودورها في حل هذه الأزمات أو تعقيدها ..فالمجتمعات الواعية المثقفة التي تحيط بالمشاكل التي تواجهها، وتعلم ماهية التحديات وخطورتها تكون أقدر على مواجهة التحديات والأزمات بعكس المجتمعات الجاهلة التي تعبث بها الشائعات والأمراض والانتماءات تحت الوطنية، والسؤال الذي بات ملحاً اليوم أمام أبناء الأمة العربية وفي مقدمتهم المثقفون، ما هي الثقافة التي تقوم بهذه المهمة، وتجعلنا نطمئن إلى حاضرنا ومستقبلنا، خاصة وأننا نشهد عواصف خبيئة تعصف بالمجتمعات البشرية عامة وفي وطننا العربي خاصة فبتنا في حالة لا نحسد عليها، وسنحاول تقديم بعض الرؤى التي نراها تحصن من ثقافتنا وتعززها لتكون قادرة على مواجهة الأزمات التي تعتري حياتنا العربية في المجالات المختلفة ويأتي في مقدمها:
-جلاء الصدأ عن العقل العربي، من خلال تجديد مكوناته، وتفعيل عناصر الإبداع في أجزائه، كونه الأساس في مواجهة التطرف بأشكاله المختلفة، وتنمية المنزع العلمي النظري، واتباع التيارات الفكرية السياسية العربية منهجية صارمة، ومنتظمة، لممارسة النقد الذاتي، والمراجعة الفكرية المستمرة، وبناء علاقات متوازنة، وموضوعية مع التيارات والأفكار المختلفة، ومع الموروث الداخلي من جهة، والفكر العالمي من جهة أخرى، والتحرر من العصبوية والفئوية، والتمذهب في الفكر والممارسة، وهذا يتطلب وعي الفكر العربي السائد، انطلاقاً من أن وعي الشيء يعني إجرائياً إدراك ماهيته، كما يعني بيان ما له وما عليه، وذلك لمعرفة قدرته على الاستمرار في الحياة، وعلى مواجهة التحديات المفروضة على طبيعة الأشياء في مختلف الميادين، يضاف إلى ذلك، أن وعي الشيء، يعني فيما يعنيه الوقوف على حقيقة مشاكله، لوضع الحلول الناجعة لمعالجتها، كما يعني إدراك أهميته في حياتنا، وشخصياتنا فردياً واجتماعياً وحضارياً وسياسياً، ما يفضي إلى استشعارنا لحقيقة انتمائنا للشيء الذي نعيه، مدركين ما يترتب على هذا الانتماء من الإحساس العالي بالمسؤولية تجاهه، وما يترتب على هذا الانتماء من المبادرة إلى فعل كل ما من شأنه صيانة معانيه، وكل ما من شأنه العمل على الإفصاح في المجال له ليقوم بدوره في مختلف جوانب حياتنا، وتوفير السبل الميسرة لتأدية دوره، وهذا يتطلب:
-قيام حوارات فكرية ثقافية خلاقة لا تنفي الاختلاف، ولا تلغي الرأي الآخر، و تطبيق جوهر العروبة المتضمن قبول التعددية بداخلها، واستدعاء مفهوم الأمة ليصبح عقيدتنا الجديدة، والمنارة التي نهتدي بها في تعاطينا مع قضايانا الوطنية والقومية لذلك بات الأخذ بالحوار منهجاً للتقارب بين التيارات الفكرية والسياسية والمذاهب الإسلامية ضرورة ملحة، وأن نعزز الثقافة التي تكرس الحوار بين أبناء المجتمع، والتوكيد على أسلوب الحوار، والمناظرة في نقد الأفكار، والدعوة إلى التوحيد بأسلوب حر مفتوح.
-تطوير لمناهج التربوية والتعليمية في المراحل المختلفة، والمؤسسات المعنية بالثقافة من خلال التركيز على جملة من الثوابت والقيم وفي مقدمها: حقيقة كون العرب أمة واحدة ذات رسالة حضارية خالدة، عمرها آلاف السنين، وتمسك شبابنا في إبراز الأصول الحضارية العربية، والإيمان أن العروبة ذات امتداد تاريخي وثقافي واسع وكبير قديماً وحديثاً، وهي رسالة حضارية للإنسانية.
– إذكاء الوحدة الوطنية لأنها خطوة على طريق الوحدة الكبرى، والإيمان أن قضايا الشعوب والأمم ليست حكراً على مرحلة معينة ضيقة ضمن الزمان ولا تحسمها عوامل ومستجدات لا حدود لها و التأكيد أن الهوية هي أساس وجود أي مجتمع من المجتمعات.
– إيلاء الجامعات العربية الاهتمام والرعاية، كونها مراكز إشعاع فكري وعلمي وحضاري، بحيث تكون الجامعات مؤسسات لتطوير العلوم والمعرفة والتكنولوجيا.
– مواجهة التطرف، وذلك على مستويين:الأول: هو المستوى التربوي الاجتماعي، إذ لا بد من تكريس الأخلاق، وشرحها بشكل أكبر، لأن جزء من الأزمة التي نعيشها هي أزمة صراع هوية، وهذا يؤدي إلى فراغ عقائدي و فراغ فكري، فراغ نفسي، فيتحول الإنسان إلى الابتعاد عن الأخلاق ويتحول إلى شخص دون مبادئ، تقوده الغريزة، وبالتالي سهولة تحوله إلى التطرف ،والوقوع في فخ المتطرفين، والتخلي عن الانتماء للوطن، والمستوى الثاني: هو المستوى العقائدي، إذ لا بد من إبعاد العقيدة الدينية عن السياسة وذلك بالانتقال من مرحلة التدين التقليدي الذي يهتم فقط بالمحافظة على الشعائر إلى رؤية دعوية إيمانية قرآنية علمية كاملة، ليتقدم خطاب العقل والفكر المستضيء بمصابيح الأفكار النيرة المتصفة بالشجاعة والوطنية والإيمان والوعي.
-العناية بالثقافة الشعبية العامة، وجعل الثقافة خبز الناس وذلك بجعل الثقافة ثقافة مجتمعية تعني بكل شرائح المجتمع، وإحداث مشاريع ثقافية باسم ثقافة الأطفال الصغار وثقافة الشباب، وإطلاق قناة ثقافية عربية تتجاوز الاختلاف السياسي بين الأقطار العربية، وتشجيع الترجمة من اللغة العربية وإليها بما يساهم في تخصيب العقل العربي ويعزز رؤية سبيل الخلاص والتحرر وهذا يتطلب إنشاء صناديق عربية لتمويل الترجمة خاصة والثقافة العربية عامة، وإيجاد مركز موحد للترجمة في الوطن العربي وإيجاد تشريعات عليا لتوحيد جهات الترجمة ومناهجها وأساليبها وإناطة ذلك بمؤسسة واحدة تسمى المؤسسة العربية للترجمة ،وإيجاد تشريعات للثقافة والثورة المعاصرة تحول المعلومات إلى أهم عوامل الإنتاج والثقافة واقتصاد المعلومات والاتصالات والإعلام والتقانة.
-إن من أهم صفات الثقافة التي نحتاجها اليوم هي المقاومة، وبناء ثقافة التحدي، والثقافة المنتجة، ومواجهة الواقع بكل كفاءة واقتدار، والتحلي بثقافة الأمل، العمود الأساسي لثقافة المقاومة، التي تجعل الإنسان يعيش الحاضر وفي عينيه المستقبل، ويؤمن أن الزمن يتوقف على إرادته وعلى عمله، ولا يوجد مستحيل عندما يقرر أنه لا يوجد مستحيل.
– ومن مهام الثقافة التي نريدها أيضاً تعزيز الذاكرة الوطنية للأجيال العربية الشابة، التي باتت المستهدف الأول من خلال غرس مفاهيم الثقافة الاستهلاكية، والعدمية، وتخليع الانتماء الوطني، واستبداله بانتماءات ما دون الوطنية.. وتدمير معالم الذاكرة الوطنية التاريخية لمجتمعنا الغني بتراثه الحضاري-الثقافي.
-كشف وتعرية ما يسمى جمعيات مدنية، ودكاكين حقوق الإنسان، ومؤسسات ثقافية مشبوهة ممولة خارجياً، على أساس الشعار التاريخي» أعطني مالاً أعطيك نضالاً «، «ديمقراطيين جدد»، وهم ممن اخترعتهم القوى الإمبريالية التلمودية، والذين لا يرون في التمويل الأجنبي عيباً، بالرغم أنه عمالة صريحة، ومهانة ،وعار، لا يرتضيه كل من لديه قدر من الكرامة، واحترام النفس..وهذا من فعل وصناعة المخابرات الأميركية والصهيونية التي يدل تاريخها إنها قامت بتشجيع الفكر العدمي المتجرد من القيم الوطنية، وأنفقت ملايين الدولارات من أجل ذلك، وعزل الأدب والفكر عن قضايا المجتمع، وكان ذلك هدفاً استعمارياً دائماً ،باسم حرية التعبير، فالمطلوب هو ثقافة تقدس العقل وتحترمه وترتكز على الفكر النقدي وبذلك تسهم الثقافة في حل الأزمات من جهة وتحصن المجتمع من الوقوع فيها وتسهل حل أي أزمة يتعرض لها المجتمع.
العدد: 1099 تاريخ: 14 – 6 – 2022