الملحق الثقافي – دلال ابراهيم:
في الوقت الذي يمضي أبناؤنا الطلبة أوقاتهم العصيبة في استرجاع ما خزنوه من معلومات في ذاكرتهم خلال السنة الدراسية ليفرغوه على ورقة الامتحان في آخر العام الدراسي ويتقرر فيما بعد إن كانوا يستحقون شهادة البكالوريا أم لا يستحقونها،
وهي شهادة العبور بهم إلى مرحلة النضج والإنتاج. ويطرحون عليهم أسئلة عن مواضيع حشوا بها رؤوسهم والتي سرعان ما ستغيب في بئر النسيان. سوف نستعرض هنا ومن أجل رفع معنوياتهم أمثلة رائعة لمشاهير أثروا العالم بنتاجاتهم التي لا زالت منارة لأجيال طويلة، كانوا في بعض الأحيان المصدر الرسمي لنصوص مدرسية مطلوب من الطلاب التعليق عليها، علماً أنهم لم يتخرجوا من المدارس التعليمية ولم يبلوا حسناً حين كانوا طلاباً على مقاعد الدراسة.
في البداية نأخذ من تلك النماذج حياة أديبنا الكبير حنا مينة الراحل عنا منذ فترة قريبة. صاحب الياطر والمصابيح الزرق يقول « كانت أعلى شهادة حصلت عليها هي « السرتفيكا « – الابتدائية – وبالكاد كان لدي صندل أنتعله في الشتاء، فيما أمضي شهور الصيف حافياً. ويروي شيخ الرواية السورية: « أن الراحل المفكر عادل العوا، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، سألني وأنا إلى جانبه في إحدى المناسبات « دكتور حنا، من أي جامعة تخرجت ؟» أجبته بغير قليل من الجدية» من جامعة الفقر الأسود !» قال :» عجيب، أنا لم أسمع بهذه الجامعة!» يذكر في إحدى قصصه ( الكتابة على الأكياس ) أنه حين اضطر للعمل في الميناء لمساعدة عائلته المعدمة، واكتشف هناك عدم قدرته على رفع الأكياس، نظراً لضعف بنية جسمه، شعر بالأسى، وحين برزت الحاجة لكتابة بيانات بسيطة على الأكياس اختاره المعلم لأنه يتقن الكتابة. وفي أعقاب مرور سنين طويلة، وكان بصحبة صديق يعرف كليهما، قال ذلك الصديق للمعلم: إن حنا مينة كاتب معروف اليوم، أجابه المعلم: نعم، أعرف ذلك. لقد بدأ الكتابة عندي على الأكياس.
بينما اكتفى الشاعر محمد الماغوط في بداية حياته أن يقتصر تعليمه على الدروس التي كان يتلقاها مع أبناء الفلاحين الآخرين في « الكُتّاب « والتي شملت القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم. انتقل بعدها للدراسة في المدرسة الزراعية الموجودة في مدينته السلمية. لم يكن يهوى الزراعة والعمل في الأرض، وإنما بسبب ظروف أهله المادية، وتقديم المدرسة الطعام والشراب مجاناً دفعاه إلى الدراسة فيها، حيث تابع دروس البكالويا في الثانوية الزراعية في خرابو بالقرب من دمشق. ومع ذلك لم يكمل دراسته، وخرج من المدرسة وعاد إلى السلمية مسقط رأسه. ليبدأ بعدها اسم الشاعر محمد الماغوط في التوهج.
نبتعد قليلاً باتجاه الهند وهنا بالتأكيد ستكون لنا وقفة مع شاعرها وفيلسوفها طاغور شاعر الانسانية ، حصل على دكتوراه من أرقى الجامعات الأوروبية وحصل على جائزة نوبل ولكنه فشل في الانتظام في المدرسة وتركها في سن الثانية عشر. أبوه اعترف لأحد أصدقائه أنه حين يأخذ ولده إلى المدرسة كأنما يسوقه إلى المذبح. وعوضه عن المدرسة والداه وكانا هما المدرسة التي فجرت مواهبه من مكامنها ، بالإضافة إلى المعلم الوحيد الذي استعان به والده ليعلمه في البيت. حتى عندما فشل في دراسة الحقوق في انكلترة، كان والده إلى جانبه بتشجيعه على استثمار اقامته في لندن التي أتقن لغتها وصار يترجم أعماله بنفسه . فهو يعتبر الطبيعة أكبر مدرسة للمرء.
المخترع العالم توماس أديسون مكث في المدرسة ثلاثة أشهر فقط ليطرد بعدها بحجة أنه طفل ناقص الذكاء. ولكن والدته لم تيأس وبقيت مؤمنة بإمكانيات ولدها، علمته بنفسها وفي سن التاسعة تقريباً كان قد اطلع على أمهات الكتب وشغف بعلوم الطبيعة والكيمياء. وبعدها كرت سبحة اختراعاته التي بلغ عددها ألف اختراع .
بينما شكسبير الذي لم ولن تغيب الشمس عن ابداعاته لأنه تمّ ترجمتها إلى كلّ اللغات ولو أنها غابت عن امبراطورية بلاده. شكك المؤرخون والنقاد في قدرة شكسبير على تأليف كلّ تلك الروائع، وهو الذي ترك المدرسة في سن مبكرة، واعتمد على التعليم في المنزل.
وكان الفيلسوف الدنماركي كيركجور يسمي الجامعات بمصانع المعلبات ويرى أن أفضل المدارس هي التي لا تضم جدراناً كتلك التي خرج منها ارسطو وسقراط وأفلاطون. فيما اينشتاين الذي غيّر العالم بنظريته عن النسبية وهو في الثلاثين من عمره كان مستواه في المدرسة سيئاً للغاية . حتى أن معلمه نصح والده بألا يرهق نفسه في اختيار تخصص لابنه لأنه سيفشل حتماً بغض النظر عن نوع الدراسة. وكان جل ما يتمناه هو أن ينال شهادة تعليمية تمكنه يوماً من الحصول على رغيف الخبز بشرف. ولما برع في الرياضيات وعلوم الطبيعة تعلمهم في البيت وليس في المدرسة.
أما بيتهوفن الذي قدّم أول أعماله الموسيقية وهو في سن الثامنة ، ترك المدرسة صغيراً، لأنه برأي مدرسه قميء ومغلوب على أمره، ويسقط أي شيء من يده وينكسر. ولكن اهتمام والده فيه الذي التفت إلى تعليمه العزف . وقد لعبت المعاناة والألم دوراً في رسم ملامح عبقريته، ولكنّه لم يسمح لها بأن تتدخل في تشكيل وجدان اللحن أو مضمون
وننتقل إلى فرنسا، التي أسهمت في رفد العالم بأسماء مهمة في عالم الأدب والعلوم الأخرى. من المعروف لدى الجميع أن الشاعر أندريه مالرو لم يكن راضياً ومحباً لطفولته. وكان يردد ذلك أينما حل. حتى يمكننا القول :إنه كان يحب ألا يعجب بطفولته. نشأ مالرو في متجر للبقالة، وقد ربته والدته بيرث في وسط حقول البطاطا واللفت، ووجد أن هذا المحيط وهذا العالم من صغار البرجوازية هي الطبقة المحرومة. ولو قيض له الاختيار، لكان فضل أن يولد غنياً.
لم يكن مالرو طالباً سيئاً في المدرسة كما لم يكن ممتازاً. وكان يتردد على بوفيه في شارع توربيغو بغية التحضير للبكالوريا. وكذلك سعى للدخول إلى الكوندورسيه في عام 1918. إلا أن تلك المدرسة الثانوية المرموقة رفضت استقباله في صفوفها ولا أحد يعرف دوافع رفضها. وبدلاً من التسجيل في ثانوية أخرى فضل الحفاظ على عزته وكبريائه. ولأن جراحه كانت عميقة قرر هجر مقاعد الدراسة. وفي حين كان يدعي أن لديه طموحات بالرسم، لم يستغل تلك الطموحات ليرسم. في الوقت الذي كان فيه يكتشف عالم الكتب النادرة لدى رينيه-لويس ديون. وبعد مضي ثلاثة أعوام نشر كتابه «أقمار مصنوعة من الورق» قبل أن يغادر إلى منطقة الهند الصينية لنهب معابد الخمير الحمر، ونشر كتاب حظي بالنجاح إلى جانب شن العديد من الحروب، وليصبح وزيراً في نهاية المطاف. وتلك هي إنجازاته.
وكان المؤلف المسرحي غيتري الذي تمّ فصله إحدى عشر مرة من المدارس يشبه المدارس بالسجون ويدعو إلى معاقبة المهندسين الذين يبنون مثل تلك الأهوال. وفي إحدى المرات واحتفالاً بعيد ميلاده نظمت إحدى المدارس حفلاً على شرفه، قال فيه « يحق للطالب الممتاز الذي نال شهرة تكريمه في مدرسة ثانوية واحدة. بينما أنا الذي تراكمت لدي فصول الطرد يمكنني الزعم بالتكريم عشرات المرات».
الكاتب والشاعر جان كوكتو كان لديه فكر متقد ولكن انتحار والده وهو في عمر التاسعة وعيشه وحيداً مع والدته الماجنة أرخت بظلالها عليه. ذهب إلى المدرسة على مضض وكانت نتائجه موضع خجل وفي الكوندورسيه تعرف على بيير دارغيلوس ليعلمه على متعة المعصية ومن ثم يتم طرده من المدرسة ، ولم يثر ذلك قلقه ، لأنه كان يفضل قضاء الليالي يدخن في الدورادو، ووفقاً للحكاية كان يجد ضالته في المتعة، ولا سيما لقاءه مع جين رينيت التي كانت ترتدي تنانير قصيرة مثيرة جعلت منه شخصاً مفتوناً بساقيها. عاش معها أكثر الأيام مجوناً . وحينما أبدى رغبته في العودة، لأن سعادة الجسد لم تكن تعنيه، وصار يسعى للحدّ من أضرار هذه التجربة، إلا أن النتائج لم تعد تُطاق والحال صارت مثيرة للحزن.
وكان لدى الطالب ايميل زولا طموح للحصول على البكالوريا، وفي عمر السادسة قرر أن يصبح رجل أدب وبدأ في قراءة الروايات، ولكن وفاة والده المهندس والحالة العائلية المزرية التي خلفها بسبب الديون المرهقة وكان حينها في السابعة من عمره حدت من طموحه. ولمرتين متتاليتين يرسب زولا في امتحانات البكالوريا مرة في الشفهي والثانية في الكتابي ويهجر الدراسة ، ومن ثمن تنقل في أعمال وليصبح بعدها زولا الأديب.
يمتلك الشاعر أبولينير اسماً مركباً وطويلاً نختصره باسم «غيوم أبولينير» وقصة فشله في البكالوريا يكتنفها الغموض. ويتضح لنا بجلاء أن طفولته ومراهقته كانت مضطربة، عاش تحت سلطة نفوذ والدته انجيليكا الغريبة الأطوار والأرستقراطية الماجنة ولاعبة القمار والتي كان لا بدّ لها بسبب ذلك أن تنتقل للعيش في موناكو، وهناك أدرجتها الشرطة في قائمة صنف «نساء ظريفات» واشتهرت في الكازينوهات باسم أولغا. اسم لا زالت تحلم فيه المتجولات في الريفييرا. لم تهمل تربية ولديها اللذين أرسلتهما إلى مدينة كان إلى ثانوية ستانيسلاس ومن ثم إلى ثانوية ماسينا في نيس. وكان الشاب غيوم يقرأ بنهم. وحتى قاموس لا روس، كما اعترف كان في قائمة دراساته المشوقة. وعلى الرغم من ذلك فشل في عام 1897 في نيل البكالوريا. فما الذي جرى؟ من المستحيل معرفة السبب.وعلى إثر ذلك هام أبولينير على وجهه، فقد غادر الفندق دون دفع الفاتورة «بناء على نصيحة والدته»، وبعد أن فشل في إيجاد عمل له في المصرف، وافق على العمل في مكتب محامٍ، وحاول أن يصبح صحفياً في انتظار فرصته ومكانته في عالم الأدب. والآن هناك مدرسة باسمه في نيس، وفيها يدرس الطلاب البكالوريا وبعضهم يحصل عليها.
كان يعمل والد الكاتب جان جيونو في صناعة الأحذية بينما كانت والدته تعمل في كوي الملابس. درس جيونو في مدرسة مانوسك، وهي إحدى المؤسسات التعليمية القليلة المجانية في فرنسا. وكان بالمستوى المتوسط. وقيل :إنه كان بوسعه الحصول على البكالوريا. ولكنه أنهى دراستها قبل الشروع فيها. فقد قرر العمل وهو في عمر 16 بصفة كاتب لدى مصرف يتردد عليه البرجوازيون من مقاطعة بروفانس. حيث تلقى والده ضربة ولم يعد للأسرة من مورد تعيش منه.
فهل كان ذلك يرضي شعور الكبرياء البروليتاري لديه؟ وفي وقت كان يصر على وصف نفسه بعد ثلاثة سنوات من التخندق معهم قبل أن يصبح أديباً بأنه «عصامي» و»فخور بنفسه». فهو شاعر الشعب. ويتحدث عن طيب خاطر عن شبابه البائس.
وفي عام 1929 حين زاره الروائي أندريه جيد في منزله، أصابته الدهشة لمّا لم يجد لديه أياً من رواياته. فأجابه مؤلف رواية «ملك دون رفاهية» بأنه «فقير جداً لا يملك الثمن ليشتري رواية له والبالغ ثمنها خمسة فرنكات» شيء مثير للأسى ولكنه غير صحيح، لأن جيونو كان يقدّم نفسه بصفة مستخدم بسيط في المصرف وهو في الحقيقة كان بمثابة الزيت في حسابات أعداء مؤسسة مانوسك التعليمية. وكان يسافر لقضاء إجازاته، في الوقت الذي لم يكن في مقدور غيره السفر. كان يشتري الكتب بكثرة، ومنها إصدارات «أوليس» لفيكتور بيرار بقيمة 150 فرنكاً، وكذلك الأعداد الباهظة الثمن لوالت ويتمان.
وبما أننا عرجنا على ذكر أندريه جيد، من المناسب أن نذكر أنه جرى استبعاده من مدرسة الاليزاس المرموقة إثر ضبطه في مخالفة أخلاقية، وبعدها اتبع دروساً تعليمية متقطعة على يد أساتذة في عدة اختصاصات، وتراكمت لديه سنوات تأخر دراسي. وفي سن العشرين حصل على البكالوريا. فأهله لم ييأسوا البتة.
لا تعترف بالفشل، أبحث عن مكامن قدراتك وهي في متناول يديك، فقط أزح تلك الغشاوة عن عينيك وثق بنفسك وستعثر عما يميزك ويجعل منك الإنسان المبدع.
العدد: 1099 تاريخ: 14 – 6 – 2022