الملحق الثقافي:
ارثر ميللر الكاتب الاميركي الأكثر شهرة يكتب ويقدم أسباب كتابته مسرحية البوتقة ، المقال المهم جداً الذي تعيد وسائل الاعلام الثقافية ترجمته ونقله كلّ فترة من الزمن ،وقد ترجمته أخبار الأدب المصرية ونشرته في عدد أيار عام 2022م تقول أخبار الأدب :
نشرت جريدة النيويوركر الإلكترونية إعادة لمقال كتبه المسرحى الأميركي الأشهر أرثر ميللر عام 1996 فى النيويوركر (الورقية وقتها) بمناسبة مشاهدته لفيلم البوتقة المقتبس عن مسرحيته الشهيرة، والتى دارت أحداثها فى بلدة سالِم بولاية ماساتشوستس فى القرن السابع عشر، وكتبها ميللر فى إسقاط على المكارثية التى اجتاحت أميركا فى بداية الخمسينيات
هنا نص المقال.
هارى كوهن رئيس شركة كولومبيا للإنتاج فعل شيئاً كان يعتبر فى زمن آخر لا يعقل. أعطى رجال المباحث FBI سيناريو الفيلم، ثم طلب منه بعدها أن أبدل رجال العصابة – الذين يهددون ويقتلون أعداءهم – وأضع بدلاً منهم الشيوعيين
بطبيعة الحال، الأفعال غير منطقية أثناء الحروب الثقافية والدينية كما هي في الكوابيس. الشىء موضوع الخلاف هو النوايا المدفونة، الولاءات السرية للقلب المتفرد، التى كانت دائماً التهديد الرئيسى للعقل الكهنوتى ومعقله الأزلي.
شاهدت مسرحية (البوتقة) فى فيلم سينمائى العام الماضي ما أعاد إلى عقلى عمق الماضى السحيق الذى مثلته المسرحية. بينما أشاهد الممثلين الموهوبين يتألقون على الشاشة، ومعهم الجموع والأطفال والخيول والعربات، فكرت مرة أخرى كيف مزجت كل هذا منذ ما يقرب من خمسين عاماً، فى أميركا التى يبدو أن لا أحد ممن أعرفهم يذكرها بوضوح الآن. المضحك أن هذا الفيلم مصنوع فى أحد استوديوهات هوليوود، شيء لم يمكن تخيله فى الخمسينات. لكن ها هو دانيال داى لويس (جون بروكتور) يحصد حقله البحري. جون ألين (إليزابيث) ترقد حبلى فى زنزانة باردة. وينونا رايدر (أبيجيل) تسرق أموال عمها القس. الساحر بول سكوفيلد (القاضى دانفورث) وتعاطفه الحنون مع الأطفال الممسوسين بالشيطان. وكل شيء يتكرر فى حتمية كالمطر.
أتذكر تلك السنوات التى شكلت هيكل «البوتقة»، لكننى فقدت ثقل الخوف الذى تملكنى حينئذ. الخوف لا يدوم بشكل متماسك. وكما يستطيع حضوره إفساد الأحكام، فغيابه يضلل الذاكرة. ما يسبب الرعب لجيل كامل سيجلب ابتسامة دهشة للجيل التالي. أتذكر عام 1964، عشرون عاماً فقط بعد الحرب. هارولد كلرمان -مخرج «حادث فى فيتشي» عرض لطاقم العمل فيلماً به خطبة لهتلر، رغبة فى إعطائهم الإحساس بفترة النازى والتى تدور فيها أحداث مسرحيتي. شاهدوا هتلر وهو يواجه ملعباً ممتلئاً بعشاقه، يقف على أطراف أصابعه فى نشوة، يداه متشابكتان تحت ذقنه، على وجهه ابتسامة رضا عن النفس، جسده يستدير بصورة لطيفة، وهم -الممثلون- يقهقهون على حركاته المبالغ فيها
بالمثل،الأفلام المسجلة للسيناتور جوزيف مكارثى غير مريحة -إذا تذكرت الخوف الذى نشره- بالزمجرة الخارجة من فتحات أنفه، بعدوانية كما مشاكسي الشوارع الجانبية. وتحديقة عينى القطة وسخريته الشريرة.يشبه هذا الآن كوميديا ممثل بارع يحتفظ بوجه جامد بينما يرغو ويزبد بتهديداته.
قدرة مكارثى على إثارة الخوف من الزحف الشيوعي لم تكن كلها مبنية على الوهم، بالتأكيد الخوف الحقيقى أو المزعوم، دائماً كالمحار يفرز لؤلؤته حول ذرة من الحقيقة. تحول الاتحاد السوفيتى من حليفنا فى الحرب إلى امبراطورية تتنامى بسرعة. في عام 1949 ماو تسى تونج صعد للسلطة فى الصين. غرب أوروبا أيضاً بدت مستعدة للتلون بالأحمر، خاصة إيطاليا، حيث كان حزبها الشيوعي هو الأكبر خارج روسيا. الرأسمالية فى رأي الكثيرين، وأنا منهم، لم يكن لديها شيء لتقوله. فآخر أزهارها السامة كانت فاشية ألمانيا وإيطاليا.
مكارثي، متغطرس وسيئ التربية، لكن في نظر الكثيرين مخلص وصادق. قام بتشكيل كل هذا لصورة تدخل عقل أي شخص: فقدنا الصين، وسنفقد أوروبا قريباً، لأن وزارة الخارجية التى عينها بالطبع رئيس ديموقراطي، ممتلئة بموظفين خونة موالين للسوفيت. هكذا بمنتهى البساطة.
كان فقدنا للصين مساوياً لفقد البرغوث للفيل، هذه مجرد عبارة لها منطقها لم يجرؤ أحد على التساؤل عن صحتها وإلا وضع نفسه فى خطر الاشتباه. بالفعل وزارة الخارجية بدأت فى مطاردة ورفد الموظفين الذين يعرفون عن الصين لغتها وثقافتها الغامضة.خطوة أشبه بممارسة الشعوذة، بأن تعصر رقبة دمية فتجعل رأس عدوك البعيد تسقط عن جسده. كانت الشعوذة في كلّ مكان، سياسات المؤامرات الخارجية سيطرت على الخطابات السياسية حتى توارى أمامها أي أمر آخر. كيف يمكن التعرض لتلك الفظائع في مسرحية.
«البوتقة» كانت ثمرة اليأس. أعتقد أن كثيراً من يأسى كان متفرعاً من إحباط عام، ناتج من الصدمة المرحلية التى ضربت العقول بصعود الفاشية الأوروبية والمعاداة الوحشية للسامية التى حكمتها وقتها. لكن عام 1950، عندما بدأت في التفكير في الكتابة عن اصطياد الشيوعيين فى أميركا، كان أغلب الحافز من العجز الذى ساد بين الليبراليين الذين، برغم عدم رضاهم عن مخالفة التحقيقات للحقوق المدنية، كانوا مرعوبين إذا قاموا بالاعتراض الزائد عن الحد من اتهامهم بأنهم شيوعيون سريون.
في أي دراما، مهما كانت تافهة، يجب أن يوجد مرجع أخلاقي تقاس عليه الأفعال. في الحياة الحقيقية نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات لم يعد ذلك المرجع موجوداً. اليسار لم يعد يرى بوضوح انتهاك الاتحاد السوفيتى لحقوق الإنسان. الليبراليون المناهضون للشيوعية لم يستطيعوا الاعتراف بوجود انتهاكات لحقوق الشيوعيين من لجان الكونجرس. فى الوقت ذاته كان اليمين يحصد كل المكاسب. أيام «أنا أتهم» كانت قد انتهت لكل شخص يريد أن يشعر بحقه فى أن يعارض فعل شخص آخر ويثبت خطأه. بالتدريج، كل المبادئ السياسية والأخلاقية ذابت مثل ساعة دالي. لا أحد إلا مجنون كما بدا استطاع حقاً أن يقول كلّ ما يؤمن به.
الرئيس ترومان كان من أول من وجب عليهم التعامل مع تلك المعضلة، وطريقته في حلّها صارت مثيرة للاهتمام، بأن يجهز أشرعته لينتفع بالعاصفة التى يسمع عواءها. فى البداية كان غاضباً من مزاعم التسلل الشيوعى على نطاق واسع في الحكومة، ووصف تهمة «تدليل الشيوعيين» بأنها ذريعة دسها الجمهوريون لإسقاط الديموقراطيين. لكن مع ازدياد قوة الجماعات المؤمنة بوجود المؤامرة السوفيتية شعر ترومان بضرورة إنشاء مجالس يضمن ولاءها.
تحت قيادة لجنة مجلس النواب للأنشطة غير الأميركية وقيادة مكارثي، تم الهيمنة على نفوس الأميركيين. فى صيدهم للحمر وصلوا لهوليوود. وافقت الاستديوهات- بعد مقاومة مبدئية- على منح قائمة بأسماء الفنانين للجنة مجلس النواب لفحصها قبل توظيفهم في أي عمل. هذا أطلق حالة رعب قصوى بين الممثلين والمخرجين، والآخرين من أولاعضاء النقابة الفنية إلى هؤلاء الذين بالكاد لهم احتكاك بالجمعيات القيادية.
كانت فكرة المؤامرة السوفيتية هي العدوى الأولى التى أظهرت مجموعة من الأوبئة، وهي التى بررت سحق أي محاولة للاختلاف، أي ظل لأحكام عقلانية يتطلبها المنطق. والأسوأ الشعور أن حساسيتنا تجاه الهجوم على حريتنا كان يتلاشى منا، في الحقيقة منى أنا. في سيرتي الذاتية «انحناء الزمن» ذكرت الوقت الذى كتبت فيه سيناريو فيلم «الخطاف The Hook» عن فساد نقابة العمال في ووترفرونت ببروكلين. هارى كوهن رئيس شركة كولومبيا للإنتاج فعل شيئًا كان يعتبر فى زمن آخر لا يعقل. أعطى رجال المباحث FBI سيناريو الفيلم، ثم طلب منى بعدها أن أبدل رجال العصابة – الذين يهددون ويقتلون أعداءهم – وأضع بدلًا منهم الشيوعيين. عندما رفضت تنفيذ تلك البلاهة (جو ريان رئيس نقابة عمال لونجشور ذهب بعدها إلى سجن «سنج سنج» بتهمة الابتزاز) تلقيت برقية من كوهن يقول فيها «اللحظة التى نحاول فيها صنع فيلم يدعم الأميركيين تنسحب!» فى ذلك الوقت-1951- كنت بدأت فى تقبل ذلك الجنون الرهيب كشيء عادي، لكن كان هناك شيء رائع داخله رغبت بشدة في وضعه على خشبة المسرح.
فى تلك السنوات صارت طرقنا في التفكير مليئة بالأوهام وجنون الارتياب لدرجة أن تخيل كتابة مسرحية عن ذلك المناخ كان يشبه محاولة وضع كرة من الصوف بين أسنانك. لم تكن لدى الأدوات لإنارة المستنقع ولم أستطع الخروج منه.
كنت قرأت عن محاكمات الشعوذة في الجامعة، لكن حين قرأت كتاب ألف صفحة نشر عام 1867 في جزأين لمؤلفه تشارلز أوفام الذى كان حينها عمدة بلدة سالِم، عرفت عندها أننى أريد الكتابة عن تلك الحقبة.
أوفام لم يكتب فقط تحقيقاً مفصلاً وواسع النطاق عما كان وقتها فصلاً مفقوداً من تاريخ سالِم، لكن أيضاً فتح لي الباب لتفاصيل العلاقات الشخصية بين أبطال تلك المأساة.
زرت سالِم أول مرة فى ربيع كئيب عام 1952. كانت وقتها مدينة مهمشة. بمصانع مغلقة ومتاجر خاوية. فى دار محكمة المدينة الموحشة قرأت نصوص محاكمات الشعوذة عام 1692 التى كتبها بالاختزال البدائى القساوسة الذين كانوا يُملون بعضهم. لكن كان هناك إضافة واحدة في كتاب أوفام ما جعلنى أضع آلاف القطع التى صادفتها فى مكانها الصحيح. وهو تقرير كتبه القس صمويل باريس، الذى كان أحد المحرضين الرئيسيين على مطاردة المشعوذين.
«أثناء التحقيق مع إليزابيث بروكتر، أبيجيل ويليامز وآن بوتنام»- وهما مراهقتان «منكوبتان» صاحبتا الادعاء، وأبيجيل كانت ابنة أخ القس باريس- «عرضتا ضرب بروكتر سالفة الذكر. لكن عندما اقتربت يد أبيجيل فُتحت بعد أن كانت في هيئة قبضة ومرت بخفة عندما اقتربت من بروكتر، وبطول أصابعها المفرودة لمست قلنسوة بروكتر بخفة. وفي لحظتها صرخت أبيجيل من أصابعها، فأصابعها، أصابعها احترقت.»
بهذه الحركة اللافتة للنظر من فتاة مضطربة، تأكدت أن عمل مسرحية صار ممكنًا.أبيجيل اليتيمة كانت تعمل لدى إليزابيث بروكتر، وعاشتا فى نفس المنزل حتى طردت إليزابيث الفتاة. أنا متأكد أنه بسبب أن جون بروكتر عاشر الفتاة التى كان ولا بد من تسريحها إرضاء لإليزابيث.صارت هناك كراهية بين المرأتين الآن، حتى أن لحظة أن صارت أبيجيل المركز البشرى لهذه الفوضى وقادرة على إرسال إليزابيث إلى حتفها بإشارة من يدها، رفعت يدها ثم اوقفتها، ثم أشارت بالحكم.
لم أقترب من قصة الشعوذة بلا سبب، ولا من اعتبارات اجتماعية وسياسية بحتة. زواجى كان يتأرجح بعد اثنى عشر عاماً وأنا أعرف أكثر مما أتمنى عن أين يقع اللوم. لكن جون بروكتر الخاطئ ربما بالتغلب على عجزه وذنبه وتحوله لأكثر صوت صريح ضد الجنون حوله صار تأكيدًا لي، بل مصدر إلهام: أن صرخة أخلاقية واضحة ما زالت قادرة أن تنبع حتى من روح بها وسط ظلامها بعض النور،صرخة تستطيع النفاذ من بين أكوام الأدلة. أدركت اننى أخيرًا وجدت شيئاً من ذاتي فيها، وبدأت المسرحية تتكون حول هذا الرجل.
لكن حين اتضح الشكل الدرامي ظلت مشكلة واحدة بلا حل: كثير من مشاهد محاكمات سالِم كانت متشابهة مع محاكمات لجان الكونجرس لدرجة أننى من الممكن أن أُتهم بتحريف التاريخ لصالح جهة ما. بالطبع لم يكد يُعرف أن مسرحيتى الجديدة حول سالِم إلا واضطرت لمواجهة التهمة أن هناك تشابهاً ماكراً، أنه لم يوجد أبداً ساحرات بل من المؤكد أنهم الشيوعيون. رغم أن فى القرن السابع عشر لم يكن وجود الساحرات محل شك من أرفع العقول فى أوروبا وأميركا. وحتى أكثر المحامين تميزاً، مثل سير إدوارد كوك، بطل حقيقي من أبطال الحرية لدفاعه عن القانون العام ضد قوة الملك التعسفية،آمن أن الساحرات يجب أن يعدمن بلا رحمة. بالطبع لم يكن هناك شيوعيون عام 1692، لكن إنكار الساحرات أو قواهن قد يكلفك حياتك حرفياً نظراً للإشارة إليهن في الكتاب المقدس: لا يجب أن تدع ساحرة تعيش. فيجب أن توجد ساحرات في العالم وإلا فالكتاب المقدس يكذب. في الواقع بنية الشر ذاته تعتمد على تآمر لوسيفر ضد الرب، والمضحك أن مجتمع من اللوسيفيريين موجودون في جميع أنحاء البلاد اليوم؛ وربما يوجد منهم الآن عدد أكبر من الشيوعيين.
مثل جميع البشر يسكن الخوف في بقعة مظلمة من روحي. عندما سرت في الليل في الشوارع الخالية المبللة لسالِم في الأسبوع الذي قضيته هناك، استطعت بسهولة تخيل رعبي أمام مجموعة من الفتيات يجرون إلى عبر الطريق صارخين أن هناك روحاً مسخرة من شخص ما تطاردهم. قفزتى ثلاثة قرون للخلف بدافع من القلق قد تكون بسبب نقطة معينة فى هوامش كتاب أوفام. اتخذت المحكمة العليا في المقاطعة قراراً قاتلاً بالاعتراف، لأول مرة، باستخدام «الأدلة الشبحية» كدليل على الإدانة. يعنى الدليل الشبحى، الذى يحمل اسماً مناسباً، أنه إذا أنا أقسمت أنك أرسلت» روحك المسخرة» لخنقي أو مداعبتي أو تسميمي أنا أو ماشيتي، أو للتحكم في أفكاري وأفعالي، فقد أوصلك لحبل المشنقة على الإعدام ما لم تعترف أنك اتصلت فعلًا بالشيطان. ففي النهاية فقط الشيطان الذي يستطيع منح قوة الانتقال الخفي لحلفائه في مؤامرته الأبدية للقضاء على المسيحية.
بطبيعة الحال، فإن أفضل دليل على صدق اعترافك هو تسمية الآخرين الذين رأيتهم في معية الشيطان. دعوة شخصية للانتقام، لكنها أصبحت رسمية بختم الدولة الكهنوتية. كان الأمر كما لو أن المحكمة قد سئمت من التفكير ودعت في غرائزها: الدليل الشبحى – تلك السحابة المسمومة من الخيال المصاب بجنون الارتياب- كان لها نوع من المعنى الجنوني، كما فعلت في عام 1952 المليء بالمؤامرة، عندما كان في كثير من الأحيان لم يكن السؤال أفعال المتهم بل الأفكار والنوايا في عقله المتفرد.
كان الإحكام المذهل للعملية ملحميا. لم يتم اتهام الجميع، بعد كلّ شيء، لذلك يجب أن يكون هناك سبب لكونك متهماً. من خلال إنكار وجود أي سبب على الإطلاق لتوجيه الاتهام إليك، فإنك تشير ضمنياً، بفضل قفزة منطقية صغيرة مدهشة، إلى أن مجرد الصدفة هي التى اختارتك، وهذا بدوره يعنى ضمنياً أن الشيطان قد لا يكون في الواقع له عمل في القرية أو- لا قدر الله – غير موجود من الأصل. لذلك، فإن التحقيق نفسه إما خاطئ أو احتيال. يجب أن تكون لوسيفير سري لتقول ذلك: ليست فكرة رائعة إذا كنت تريد العودة إلى مزرعتك.
كلما قرأت أكثر عن الرعب الذى حدث في سالِم، ربطتها أكثر بصور متطابقة معها في تجارب مشابهة في الخمسينيات: الصديق القديم لشخص مدرج في القائمة السوداء يعبر الشارع لتجنب رؤيته يتحدث معه؛ التحول بين عشية وضحاها من اليساريين السابقين إلى وطنيين ولدوا من جديد، وهلم جرا. على ما يبدو ، بعض السلوكيات عالمية. عندما رأى غير اليهود في ألمانيا هتلر، جيرانهم اليهود يُنقلون بالشاحنات ، أو رأى المزارعون فى أوكرانيا السوفيتية أن الكولاك يتلاشون أمام أعينهم، كان رد الفعل السائد، حتى بين أولئك غير المتعاطفين مع النازية أو الشيوعية، هو الابتعاد خوفاً أن يحسبوا مع المدانين. لكن كما علمت من اللاجئين غير اليهود، غالباً ما كان هناك شعور بالتعاطف اليائس ممزوج بـ «حسنًا، لا بد أنهم فعلوا شيئاً». بعض منا يستطيعون التخلى بسهولة عن إيماننا بأن المجتمع يجب أن يكون له معنى بطريقة أو بأخرى. إن التفكير بأن الدولة فقدت عقلها وتعاقب الكثير من الأبرياء أمر لا يحتمل، وبالتالى يجب أن ينبع رفض الاتهامات والبراهين منا.
انجذبت إلى كتابة «البوتقة» بالطريقة التى أتاحتها لى لاستخدام لغة جديدة – لغة نيو إنجلاند فى القرن السابع عشر. كانت تلك اللغة الإنجليزية الواضحة والصريحة تتحرر بطريقة حسية غريبة ، مع تأرجحها من دقة شبه قانونية إلى ثراء مجازي رائع. قال ديودات لوسون، أحد كبار الوعاظ الذين يطاردون السحرة، فى خطبة: «الرب يسبب حدوث أشياء فظيعة بيننا، تطيل بطريقة غير طبيعية قيد الأسد الذى يزأر ، حتى ينزل الشيطان بغضب عظيم». . حشد لوسون أتباعه من أجل ما لم يكن أقل من حرب دينية ضد الشرير – «تسلحوا تسلحوا تسلحوا!» – وشركائه المخفيين المعادين للمسيحية.
لكنها لم تكن لغتى بعد، ومن بين الإستراتيجيات الأخرى لجعلها لغتى ، طلبت المساعدة من زميل سابق في جامعة ميشيجان، الباحث والشاعر اليونانى الأميركى كيمون فريار. (قام لاحقًا بترجمة كازانتزاكيس) لم تكن المشكلة تقليد الخطاب القديم ولكن في محاولة خلق صدى جديد له يتدفق بحرية من ألسنة الممثلين الأميركيين. كما هو الحال في الفيلم، بعد ما يقرب من خمسين عامًا، استحوذ الممثلون في الإنتاج الأول على اللغة وركضوا معها بسعادة كما لو كان خطابهم المعتاد.
استغرقت كتابة «البوتقة» حوالى عام. بفصولها الخمسة وواحد وعشرين شخصية، لم يخطر ببالى مطلقاً أنها ستجعل رجلًا شجاعاً ينتجها في برودواى، خاصة فى ظل المناخ السائد، لكن كيرميت بلومجاردن لم يتردد أبدا. قبل أن تبدأ المسرحية بفترة طويلة، بدأ التوتر الغريب فى الظهور. قبل ذلك بعامين فقط، الشركة المسؤولة عن جولة مسرحية «وفاة بائع متجول» لعبت دورًا لحدوث حشد ضعيف فى بيوريا، إلينوي، بعد أن قاطعها الفيلق الأميركى وبيت الشباب الأميركى حتى الموت تقريباً. قبل ذلك، كان قدامى المحاربين الكاثوليك يضغطون على الجيش ألا يسمح لمجموعاته المسرحية بأداء، أولاً، «كل أبنائى»، ثم أى مسرحية لى ، في أوروبا المحتلة. رفضت نقابة المسرحيين الاحتجاج على الهجوم على مسرحية جديدة لشون أوكاسى، الشيوعى المعلن عن نفسه، والتي أجبرت منتجها على إلغاء العرض. علمت بحدوث حالتي انتحار من قبل ممثلين مكتئبين من التحقيق القادم، و بدا أن كل يوم يجلب أخباراً عن أشخاص ينفون أنفسهم إلى أوروبا: تشارلى شابلن، المخرج جوزيف لوسي، جول داسين، فنان الهارمونيكا لارى أدلر، دونالد أوجدن ستيوارت، أحد كتاب السيناريو الأكثر رواجًا فى هوليوود، سام واناميكر، الذى قاد الحملة الناجحة لإعادة بناء مسرح أولد جلوب على نهر التايمز.
فى ليلة الافتتاح، 22 يناير 1953، علمت أن الجو سيكون معادياً جداً. لم يكن ضعف الحشد مفاجأة. لم يشتهر جمهور برودواى بحب دروس التاريخ ، وهو ما صنعوه من المسرحية. يبدو لي أنه من المناسب تماماً أنه في اليوم الذى افتتحت فيه المسرحية، كتب عنوان إحدى الصحف «ثلاثة عشر شيوعياً مذنباً» – قصة عن الشيوعيين الأميركيين الذين واجهوا السجن بتهمة «التآمر لتعليم والدفاع عن واجب وضرورة الإطاحة بالحكومة بالقوة. «وفي الوقت نفسه، تم ضمان فرض العزلة على العمل من قبل المخرج جيد هاريس، الذى أصر على أنه عمل كلاسيكى يتطلب من الممثلين النظر للأمام ، وليس بعضهم البعض. لم ينجرف النقاد بعيداً. كتب والتر كير من صحيفة هيرالد تريبيون، الذي وصف المسرحية بأنها «خطوة إلى الوراء نحو الأداء الميكانيكي.» لم تكن التايمز أكثر لطفاً، قائلة، «هناك الكثير من الإثارة وليس هناك ما يكفى من المشاعر في البوتقة. لكن مستقبل المسرحية اتضح أنه مختلف تماماً.
بعد حوالى عام، تم عمل إنتاج جديد، مع ممثلين أصغر سناً وأقل إنجازاً، يعملون في قاعة رقص فندق مارتينيك، بالحماسة التى يتطلبها السيناريو والزمن، وحققت «البوتقة» نجاحاً كبيراً. صار تعثر المسرحية من الماضي، واليوم يقال إنها واحدة من أكثر الكتب طلباً في هذا البلد؛ باعت إصدارات بانتام و بنجوين أكثر من ستة ملايين نسخة. لا أعتقد أنه كان هناك أسبوع في الأربعين سنة الماضية لم تكن على خشبة المسرح في مكان ما في العالم. وليس الفيلم الجديد هو الإصدار الأول. كتب جان بول سارتر ، فى مرحلته الماركسية ، فيلماً فرنسياً مقتبساً ألقى باللوم في المأساة على مالكي الأراضي الأغنياء الذين يتآمرون لاضطهاد الفقراء. (في الحقيقة، كان معظم الذين تمّ شنقهم في سالم من ذوى الأصول، وكان اثنان أو ثلاثة من أصحاب الأراضي الكبار جداً).
إنها مبالغة طفيفة أن نقول إنه،خاصة في أميركا اللاتينية، يبدأ إنتاج «البوتقة» في أي مكان يبدو فيه الانقلاب السياسى وشيكا، أو عندما يتم الإطاحة بنظام ديكتاتوري. من الأرجنتين إلى تشيلى إلى اليونان وتشيكوسلوفاكيا والصين وعشرات الأماكن الأخرى، يبدو أن المسرحية تقدم نفس البنية البدائية للتضحية البشرية لإذكاء نار التعصب وجنون الارتياب مستمرة في تكرار نفسها إلى الأبد كما لو كانت مغروسة في عقل المجتمعات.
لست متأكداً مما تقوله «البوتقة» للناس الآن، لكننى أعلم أن مركزها المصاب بجنون الارتياب لا يزال يضخ نفس التحذير الجذاب القاتم الذي كان يفعله في الخمسينيات. بالنسبة للبعض، يبدو أن المسرحية تدور حول معضلة الاعتماد على شهادة أطفال صغار يتهمون البالغين بالاعتداء الجنسي، وهو أمر لم أكن أتخيله منذ أربعين عاماً. بالنسبة للآخرين، قد يكون مجرد افتتان بتفشى جنون الارتياب هو الذى يملأ المسرحية – الذعر الأعمى الذي يبدو، في عصرنا، أنه غالبا ما يجلس على حواف الوعي القاتمة. من المؤكد أن تداعياته السياسية هي القضية المركزية لكثير من الناس. تبين أن استجوابات سالِم كانت نماذج دقيقة بشكل مخيف بتبك التى لم تأتِ بعد في روسيا ستالين، وتشيلى بينوشيه، والصين ماو، وأنظمة أخرى. (أخبرتنى نيان تشينج ، مؤلفة كتاب «الحياة والموت في شنغهاي» ، أنها بالكاد تصدق أن شخصا غير صينى – شخصا لم يختبر الثورة الثقافية – قد كتب المسرحية.) ولكن تحت مخاوفها بشأن العدالة تثير المسرحية خلطة قاتلة من الجنس غير المشروع، والخوف من التلاعب الخارق للطبيعة، والتلاعب السياسي، وهو مزيج لم يكن غير مألوف تلك الأيام. الفيلم، من خلال الوصول إلى الجمهور الأميركى العريض كما لا تستطيع أي مسرحية على الإطلاق، قد يكشف عن روابط أخرى للرعب العام المدفون الذى أعلنته سالِم لأول مرة في هذه القارة.
بقى شيء واحد. شيء رائع بالمعنى القديم لتلك الكلمة. أتذكر الأسابيع التى قضيتها فى قراءة الشهادة من خلال الكتابات والتعليقات والتعليقات والاعترافات والاتهامات. ودائما ما كان الحدث الملعون الحاسم هو التوقيع على اسم المرء فى «كتاب الشيطان». كانت اتفاقية فاوست هذه لتسليم روح المرء إلى سيد الظلام المخيف إهانة قصوى للرب. ولكن ما الذي كان من المفترض أن يفعله هؤلاء المجندون الجدد بمجرد توقيعهم؟ لا يبدو أن أحداً قد فكر فى السؤال. لكن، بطبيعة الحال، الأفعال غير منطقية أثناء الحروب الثقافية والدينية كما هي في الكوابيس. الشيء موضوع الخلاف هو النوايا المدفونة، الولاءات السرية للقلب المتفرد، التى كانت دائما التهديد الرئيسى للعقل الكهنوتى ومعقله الأزلى.
العدد 1104- 26-7-2022