الملحق الثقافي – سلام الفاضل:
قد يسألني سائل حدّثينا عن أجمل كتاب قرأتيه، وهنا قد تنتفض ذاكرتي هلعاً، وتغوص عميقاً لتنتشل من إحدى زواياها المنسية كتاباً ضجت صفحاته بأحداث، أو حبكات، أو معلومات تركت أثراً جلياً لا في ذاكرتي وحدها، بل ربما في تاريخ إنساني وبشري بأكمله.
فالكتب هي نبراسات مشعة علت قيمتها الفكرية، أم قلت، ولكن أيّّاًً منّا لا يستطيع الإنكار أن بعضاً منها ترك بصمة واضحة، وأثراً خالداً في ذواكر أمم، أو شعوب لم حفلت به من إضاءات أرخت بظلالها على حضارات بأكملها.
ونظراً لأهمية هذه الكتب وغناها، فكثيراً من الغزاة لم يتوانوا عند دخولهم أرضاً ما إن يعيثوا بمكتباتها حرقاً وتدميراً، ويفتتوا ما تحويه من كنوز فكرية، وعبقريات سالت أقلام أصحابها حبراً فحوّلته أدباً. وعليه فإن سؤالاً كهذا قد يقف الكثيرون حائرين أمامه، ولاسيما عشّاق القراءة ممن تكدست في ذواكرهم الكتب، حتى غدت هذه الذواكر مصدر فخر أصحابها، ونبعاً ثرّّاًً يغرفون منه المعارف والعلوم، ولكن على صعوبته أردنا أن نتقصى جواباً عنه، فتوجهنا به إلى أحد القرّاء النهمين علنا نجد عنده ضالتنا، وهذا ما كان.
الناقد الأستاذ أحمد علي هلال أوضح بداية في رده عن هذا السؤال: «إن تاريخ القراءة يحفل بكتب تمثل علامة فارقة في الوعي والثقافة، لكن الأشد تأثيراً منها سوف يتعدد بحكم الذائقة، وبحكم التأثر، وبما تنطوي عليه من مأثرة تعكس قوة المثال لبناة الأرواح ـ الكتاب والمبدعين ـ العابرين لأزمنتهم كلها ولا سيما في محاكاتهم للتجربة الإنسانية، وقدرتهم الفائقة على أن يشكلوا حواراً مع العقول المختلفة…». وأردف: «وأقف هنا عند الكثير من الكتب التي تركت أثراً لا يمحى في الوعي الفردي أو الجمعي على حد سواء، نظراً لخصائص وسمات بعينها، منها مثلاً رائعة الأديب المصري محمود تيمور نداء المجهول لما تمثله قصته من أهمية في تاريخ الأدب الواقعي/الخيالي في آن، انطلاقاً من مغامرة يذهب أبطالها فيها إلى قصر مجهول بحثاً عن شيء ما، وهذه المغامرة التي يجسدها تيمور في قوة الخيال، ومزجه مع الواقع هي ما تعني أدب الفكرة، وضراوة تجريبها فضلاً عن متعتها ليكون العنوان نداء المجهول لا يختص من ذهب في الرحلة الاستكشافية فحسب، بل هو القارئ الذي يمتحن النداء، ويصبح مجاز القصة هنا بالدلالة الواسعة المنشطة للتفكير أولاً، والاكتشاف ثانياً…».
ويتابع هلال حديثه بسرد بعض الكتب التي شكّلت علامات فارقة في وعيه بذكر رائعة الأديب والمفكر السوري صدقي إسماعيل الله والفقر التي تركت – على حد تعبيره – أثراً مضاعفاً في وجدانه، ليس لاختيار إسماعيل أنموذجاً إنسانياً بعينه على أهمية ذلك أسعد الوارق، لكن لأن القصة تجهر بما يمكن تسميته دراما الشرط الإنساني، في عالم محكوم بهيمنة النسق الاجتماعي والأخلاقي. ويضيف: «وعليه ليس غريباً هنا أن تذهب هذه القصة بمحفزاتها إلى الدراما التلفزيزنية لتشهد ولادة تجربتين مهمتين ماضياً وحاضراً؛ فقوة الشخصية هنا هي في ضعفها الإنساني لكنها قيمة بذاتها… فعالم صدقي إسماعيل صاحب التاريخ الروائي المدهش، والأفكار الخلاقة هو مايشكل جذباً للقراءة، فهي قصة المصائر إن شئنا المقاربة، بالقدر الذي تنطوي عليه سيكولوجية أسعد الوراق كبؤرة مشعة لتفاعل أحداث كثيرة، وبالقدر الذي يعني استجابته في السياق الدرامي القصصي لمصيره، هذا يمثل لي على الأقل قوة الفن في موازاة الواقع…».
ويورد هلال كذلك في معرض إجابته أنموذجاً ثالثاً وهو الروائي الأورغواياني إدواردو غاليانو صاحب النصوص المركبة من فلسفة وتاريخ وأساطير وسخرية مضادة، ولاسيما في كتابه المعانقات. ويبين: «كيف أن الكاتب بنى الحكاية بتخيل بارع، وأضاف إليها سحر الأساطير، والنزوع الغرائبي/العجائبي، وربما روح الفانتازيا الرشيقة التي تمنح الخيال والتخييل حرية فائقة وقدرة على الامتزاج بالواقع ومحاكاته، لكنها لا تشبهه بالضرورة». موضحاً أن هذا مثّل بالنسبة له تنشيطاً للتفكير الإبداعي، كما مثّل له غاليانو، نمطاً خاصاً من المبدعين الذين يمتلكون قوة الكلمة لتعادل قوة الروح، إلى جانب أنه قد أبهره ليس في نمط الواقعية السحرية التي ظل مخلصاً لها، بل في قدرته على الاستبصار، وتعليله الحاذق لفكرة المصير. ليختم بالتأكيد على أن هذه المعطيات كانت هي:»الدال المشترك في الكتب التي تركت أثراً في تكويني الثقافي بممكنات استشرافها وهنا يتحدد بدقة معنى عالميتها، لأنها لا تذهب الى إنسان بعينه وزمان بعينه، بل تتجاوز كل ذلك لتتحدث عن الإنسانية كعقد تاريخي وأخلاقي بحثاً عن عدل ما، ولو كان العدل شريداً».
لنرى ختاماً أنه ما من كتاب قرئ إلا وترك أثراً في نفس ووجدان قارئه، إلا أن بعض الكتب مثّلت في تكوينها الفكري، ومحتواها المميز قفزات نوعية مكّنتها من أن تُخلّد وكتّابها في وجدان أمم وشعوب.
العدد 1106 – 9- 8-2022