الملحق الثقافي – مها محفوض محمد:
طرح الكثيرون السؤال التالي : هل كان للسينما أن تكون هكذا لولا الأدب، وكيف لها أن تكون حاملة الراوية والقصة والدهشة لولا الأعمال الخالدة، ثم ما العلاقة بينهما وكيف يمكن أن تكون؟، أسئلة كثيرة تتجدد اليوم وكل يوم في فورة التقنيات وموجات السينما الجديدة
وهنا نشير إلى أن الأدب ليس مصدراً للسينما وحدها إنما يجمع النقاد اليوم على أن المسلسلات التلفزيونية المعاصرة شهدت في ربع القرن الأخير تحولاً نحو الأدب واقتباساً من الفن الروائي حتى مسلسلات الأطفال (الرسوم المتحركة) أخذت من حكايا ألف ليلة وليلة وعلاء الدين والفانوس السحري وملك الغابة..
حيث ظهرت موجة من السينمائيين الكتاب الذين مزجوا بين إبداعاتهم السينمائية وتأثرهم بالرواية على غرار مارسيل بانيول الكاتب السينمائي المعروف (توفي عام 1974) الذي اشتغل في المسرح وترجم هاملت ونقلها إلى السينما التي ظهرت عشرات المرات على الشاشة الفضية ولبست أكثر من حلة فنية.
كان بانيول أديبا يتنقل بين الرواية والمسرح والسينما.
إن إفلاس هوليوود من أفلام المغامرات والأكشن هو الذي دفع بالسينما والتلفزيون إلى العودة لفتح دفاتر الرواية العالمية والاقتباس منها، فموجة الرواية المتسلسلة التي كانت تنشر فوق صفحات الصحف انتقلت عدواها إلى التلفزيون:
«د. هاوس»، «ضائعون»، «ربات بيوت يائسات» كلها مسلسلات من الثقافة الشعبية العالمية استقطبت الجماهير في كل مكان بقوة جذبها للمشاهد كما كانت قوة جذب أفلام هوليوود، ولم يعد سراً أن الإبداع والجرأة والأصالة تحولت في السنوات الأخيرة من السينما إلى التلفزيون.
هذا ما صرح به الممثل والمخرج روبرت ريد فورد في أكثر من مناسبة وديفيد فينشر مخرج « نادي المحاربين» الذي أعلن أنه يغبط الشاشة الصغيرة لأن هامش الحرية فيها أوسع وهي تنتج اليوم مسلسلات تستقطب الجميع، بينما صالات السينما قد يرتادها أو لايرتادها المشاهد فالتميز لم يعد حكراً على السينما، يقول فينشر بشيء من التهكم: لقد أصبح التلفزيون المكان الذي يأخذ وقتنا ليروي علينا القصص.
منذ خمسة عشر عاماً هناك مسلسلات أميركية تشد الكثيرين وتشغل ربات البيوت مثل سوبرانو المأخوذ عن رواية تتحدث عن المافيا الأميركية في نيوجرسي، وقد أثار المسلسل كما مسلسل دالاس الكثير من النقد فهو يسلط الأضواء على فساد الطبقة السياسية في الغرب ومساعيها لتدمير الطبقات العاملة وعلى العلاقة بين السياسيين ووسائل الإعلام وهذا طموح تخلت عنه السينما لتتابعه فنون الأدب.
وإذا كان الحوار في بعض المسلسلات يتقدم على أسلوب العرض مع التركيز على تصوير الصراع الاجتماعي الطبقي فيعود الفضل في ذلك إلى مضمون السيناريو الممهور بأجمل وأفضل ما تقدمه الرواية البوليسية الأميركية كالتي قدمها الكاتب جورج بيليكانوس ودينيس ليهان وريتشارد برايس.
فمن مجمع الصحافة والأدب يستوحي الكاتب والمنتج ديفيد سيمون من الروايات، من التحقيقات الصحفية حول الجرائم وينتج مسلسلات، لقد كتب رواية القاتل وحولها إلى مسلسل.
نقول اليوم وببساطة: إن هذه الأعمال جميعها ليست سوى استئناف للرواية المتسلسلة التي ظهرت في القرن التاسع عشر، الرواية التي كان ينشرها تشارلز ديكنز والكسندر دوماس وبلزاك وإلا ما السر في أن تشغلنا لنندفع إليها بهذه القابلية؟ لو لم تكن تقدم لنا أنواع الملهاة الإنسانية التي توصّف التبدلات السياسية والاجتماعية والثقافية لزمننا هذا.
فكم ترك تشارلز ديكنز أثره في هذا المضمار وبصمته الكبيرة في الأدب لأنه كان لسان حال الطبقة الفقيرة في شخصية ديفيد كوبلر وانتقلت أعماله إلى السينما.
أما بلزاك فأشهر أعماله التي أثرت على الأدباء الأميركيين كافة كانت الكوميديا الإنسانية 1841 لأنها شهادة على التغيرات التي شهدتها المجتمعات الأوروبية منذ الثورة الفرنسية، خاصة صعود البرجوازية وولادة الرأسمالية وتحكم الانتهازيين بالمجتمع.
وأعماله جميعها انتقلت إلى التلفزيون: زنبقة الحقل، الأب غوريو، الأوهام الضائعة، الفلاحون، أريجيني غروندوي فمن المستحيل أن يدرس تاريخ الرواية الواقعية دون الرجوع إلى بلزاك.
أما الكسندر دوماس «توفي عام 1806», فقد اشتهر كروائي يستخدم الأسلوب المسرحي، من أبرز أعماله التي تحولت إلى مسلسلات تلفزيونية وأفلام: الثلاثية، الفرسان الثلاثة، الكونت دومونت كريستو وكان تأثيرها على الجماهير كبيراً فلم يبق مخرج كبير إلا تناولها.
حتى الأدباء الذين افتقروا إلى الوحي والإلهام كانوا يستعيرون من روائع دوماس وبلزاك واليوم نقول: إن أدبنا الفرنسي له نصيبه من النساخين المقلدين، فكم من مرة أعيد نسخ واستنساخ «البؤساء» لفيكتور هيغو سواء في السينما أم في التلفزيون والتي اعتبرت قمة الفن الروائي، فمن ينسى بطلها جان فالجان الذي سجن ظلماً لسرقته قطعة من الخبز؟
إن الفن الروائي الذي يعتبر نبض الفن السابع تبدو اليوم علاقته أقوى بكثير مع التلفزيون لذلك لانندهش حين نرى اهتمام كتاب ماوراء الأطلسي ككتاب فرنسا بالمسلسلات التلفزيونية وموجة المسلسلات الطويلة التي تحكي قصص الصراع بين الأقوياء، فهذه الموجة ليست سوى رمز للصراع بين الخير والشر يستخدمها التلفزيون كما استخدمتها السينما في أفلام الخيال العلمي حيث كان يدور الصراع في عالم الشر ذاته ليرينا أنواع الشر ومستوياته كأفلام حرب النجوم وغيرها.
وكل ذلك مقتبس من الرواية بأشكالها.
ملحمة هوميروس هي رواية ولم تكن سوى مرحلة جنينية للرواية.
وبذلك يجب القول: إن الشاشة بل الشاشتين لا يمكن لهما البقاء إلا بالعودة إلى الأدب.
العدد 1108 – 23- 8-2022