الولايات المتحدة ترفع سقوف التصادم عالياً، بعدما أغلقت أبواب الحوار والدبلوماسية مع الدول التي تضعها في خانة الأعداء، وفي مقدمتها روسيا والصين، وهي تجر معسكرها الغربي لمرحلة مواجهة عسكرية على الساحة الدولية، غير محسوبة النتائج، إذ أحاطت روسيا بقواعد عسكرية من جميع الجهات، وترفع مع حلفائها الأوروبيين وتيرة ضخ الأسلحة لأوكرانيا، وعززت قواعدها بالقرب من مضيق تايون، وتدفع نحو عسكرة الأوضاع في بحر الصين الجنوبي، وتستعد اليوم لنشر قوات استراتيجية بالقرب من شبه الجزيرة الكورية.
الولايات المتحدة تفتح نيران المواجهة على جميع الجبهات، في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، وفي منطقة الشرق الأوسط، وتتمادى بسياسة العقوبات بحق كل دولة ترفض الانصياع لسياساتها الهدامة، وتدفع باتجاه تقويض الأمن والسلم الدوليين، وكل هذا التصعيد غير المسبوق، لا يمكن قراءته سوى من باب الصراع من أجل الحفاظ على نفوذها العالمي وتثبيت قطبيتها الأحادية، وهي ترى وفق منظورها الاستعماري أن جر العالم إلى حرب شاملة قد يكون مخرجاً يعيد الاعتبار إلى هيبتها المتصدعة، ويكرس مكانتها وقيادتها الأحادية.
مشكلة الولايات المتحدة، أنها ما زالت ترفض التعايش مع حقيقة أن العالم يتغير عكس الاتجاه الذي تريده، في ظل بروز قوى مؤثرة وفاعلة تنافسها على المسرح الدولي، ولا تريد الاعتراف بأن عصر الهيمنة قد ولّى، وما يزيد في المشكلة أن الدول الأوروبية السائرة في الركب الأميركي تنطلق في علاقاتها مع الدول الأخرى من بوابة المصالح الأميركية وليس من بوابة مصلحتها الوطنية، فكل دولة تصنفها الولايات المتحدة في خانة الأعداء، هي بالضرورة عدوة أيضاً للدول الأوروبية، وعليه فإن أوروبا المرتهنة تعطي واشنطن قوة دفع إضافية للاستمرار في سلوكها المتغطرس، والمدمر للعلاقات الدولية، حتى لو كان ذلك على حساب أمن واستقرار الشعوب الأوروبية نفسها، علماً أن الولايات المتحدة قد تضحي بأمن ومصالح كل حلفائها من أجل ضمان استمرار هيمنتها على العالم.
الجنوح الأميركي نحو تأجيج الأوضاع على الساحة الدولية، وجر العالم نحو الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة، يشكل بكل تأكيد خطراً داهماً، ليس على الدول التي تناصبها واشنطن العداء فحسب، وإنما على أميركا نفسها، وعلى الدول الأوروبية وغيرها ممن تسير خلف النهج الأميركي، وأمن العالم بأسره سيكون رهينة للسياسة الأميركية، وهذا يستدعي من الولايات المتحدة أن تراجع حساباتها، وتعيد بناء علاقاتها الدولية على أساس التكافؤ وتوازن المصالح والابتعاد عن منطق القوة الغاشمة، فهذا وحده ما يحفظ مكانتها الدولية، ويضمن الحفاظ على مصالحها.