يكفي دار الأوبرا فخراً، أنها لا تزال محافظة على مستوى معين في حفلاتها وأمسياتها الموسيقية والغنائية، ولم يتمكن أحد من رموز الغناء الهابط من اختراقها، وما حدث من فوضى بسبب الإقبال الشديد على حفل نجم الغناء المتألق هاني شاكر، لم يكن بسبب قلة التنظيم والحراسة، لأن الدار من أكثر الصروح الثقافية عندنا تنظيماً واحتراماً للآخرين، وفيها حراسة كافية ودقة مشددة على كل من يدخل ويخرج منها، والذين أقاموا فيها نشاطات فنية، وأنا منهم، يدركون هذه الحقيقة، حيث لمست مدى التنظيم والانضباط والدقة واحترام الآخرين.
دار الأوبرا في كل دول العالم يكون لها قدسيتها، لأنها من أرقى الصروح الحضارية، والذين أثاروا الشغب لا يعرفون قيمة لقدسية المكان، وقدسية الفن الطربي الأصيل، الذي يسموا بالروح إلى آفاق ورحاب سماوية، والإقبال الشديد على الحفل، والإعلان عن حفل إضافي لهاني شاكر، يعني أن الجمهور السوري متعطش للفن الأصيل والراقي، بخلاف ما يقال ويشاع، وهذا الإقبال يشكل انتصاراً ساحقاً لهاني شاكر، ولدار الأوبرا في آن معاً.
والذين تسرعوا في إطلاق الأحكام، وحمّلوا إدارة دار الأوبرا مسؤولية ما حدث، لم يقدروا الدور الحيوي، الذي تلعبه في خطوات نشر الفن الراقي، ومحاربة مطربي ومطربات الموجات الهابطة، فالفن رسالة حضارية وإنسانية قادرة على التجدد والاستمرار والخلود حتى نهاية التاريخ، والذين انتقدوا لا يعلمون أن الجمهور المحب للفن الخالد والمتجدد، كان ينتظر في المطارات العربية طائرة فريد الأطرش، قبل وصولها بثلاثة أيام، وحين كان ينزل فريد من الطائرة، كانت الأرض تتزلزل تحت أقدام جمهوره، وكان الجمهور يحطم الحواجز الأمنية.
الإدانة هنا لمن أطلقوا الأحكام التعسفية، وليست لإدارة دار الأوبرا التي تقاوم الغناء الهابط بالموسيقا والغناء الأصيل والراقي، وهي تصبح مدانة حين تعلن عن إقامة حفل لأحد رموز الغناء الهابط، بهدف الارتزاق، ولو على حساب إفساد الأذواق، وهي لن تستضيف أحداً منهم، لأنها باتت مركزاً للإشعاع الفني الموسيقي، ولقد أثمرت في فروعها المزهرة العشق الكامل للإبداع، والفعاليات الفنية والثقافية الجادة، رغم كل الظروف المأساوية والصعبة.
ومن خلالها تتم استعادة دورة الأحلام والحضارات، بعد أن تحول المكان إلى ملتقى لعشاق الفنون السمعية والبصرية، وبطريقة لا تسمح لأي شاردة سلبية غنائية هابطة بالوصول الى المسرح، الشيء الذي ينمي الحساسية السمعية، ويساعد المجتمع على النهوض، وتجاوز الأزمة الوجودية الراهنة.