الثورة – أحمد صلال – باريس: تهيمن تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل متسارع على مختلف مجالات حياتنا، رغم أنها لا تزال في مراحلها التأسيسية الأولى، وفق توصيف العديد من المتابعين والمختصين في هذا المجال. إلا أن احتلاله لحَيِّزٍ كبير من مهامنا اليومية بات مصدر قلق لصُنّاع الإبداع ومُتقنيه، إذ إنه يخاطب العقل البشري مباشرة، ويخلق وقائع بصرية وواقعية لمن أراد مجاراته والولوج في مساراته.
صحيفة “الثورة” طرحت جملة من الأسئلة المشوبة بالحذر:هل يستخدم الإعلاميون والأدباء الذكاء الاصطناعي في تحرير موادهم ونصوصهم؟
هل يمنح الذكاء الاصطناعي قيمة حقيقية لمن لا يمتلك ذائقة أدبية؟
ما المزايا والمخاطر الكامنة وراء التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الثقافي، الأدبي، والإعلامي؟
كل تلك التساؤلات كانت محور نقاش مع مختصين في المجال الإبداعي على المستويين المحلي والعربي، وهما: الصحافي والكاتب علي عيد، والأكاديمي والباحث الدكتور رشيد الحاج صالح.
فوائد متعددة
أوضح الصحافي والكاتب علي عيد أن غالبية الأدباء والصحفيين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في تحرير موادهم، مشيراً إلى أن الدراسات تشير إلى أن نسبة الاستخدام تتراوح بين 40% إلى 80%.
وأضاف: “نحن نعيش في عصر المستقبل، وأصبحت التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من عمل الأدباء والصحفيين، حيث تُستخدم لضبط المهام اليومية وتحسين النتاج المعنوي”.
وأكد عيد أن الذكاء الاصطناعي أصبح ضرورة يُستعان بها في مراجعة المعلومات، والتدقيق اللغوي، ما يساهم في إنجاز المهام بسرعة أكبر وتخفيض التكاليف المادية.
وهذا يتماشى مع انخفاض الميزانيات في أغلب وسائل الإعلام غير الحكومية، حيث تم تدريب الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الخاصة والمدعومة من دافعي الضرائب على استخدام الذكاء الاصطناعي في إعداد الصور، وصياغة المواد، والتدقيق اللغوي، والترجمة.
لكنه شدّد على أهمية “تدخل الإنسان” في العملية، موضحاً أن وجود العنصر البشري ضروري لتفادي إنتاج محتوى رديء، حيث يبقى للصحفي دور أساسي في تقديم الرسالة الإعلامية ذات القيمة.
وأضاف عيد: “لا أعتبر الجمهور غبياً، بل أرى أن هناك تلاعباً بالعقول يحدث بفعل الذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى تراجع في الذائقة الثقافية.
فالنصوص الناتجة عن التلقين الرقمي لا تعبّر عن إنتاج بشري حقيقي، بل هي أشبه بروبوتات تلقّن النصوص”.
وأكد أنه رغم قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج قصيدة أو تحقيق صحفي أو مقال، إلا أن هذا الإنتاج غالباً ما يفتقر إلى الانتماء “الاجتماعي” والإنساني، ويشوبه الكثير من الأخطاء.
ورغم إمكانية خداع شريحة من الجمهور بهذه النصوص، إلا أن “الجمهور المتقدم ثقافياً وذو الذائقة العالية، قادر على كشف زيف هذا الإنتاج غير البشري”.
يعتبر عيد أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي والأدبي خطراً على “المهمة الأساسية” لكل من الصحفي والأديب. إذ يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن الوثوق بمصادره، كما أنه يعتمد على عملية معقدة تُفقد الصحفي والأديب جوهر عملهما.
فالصحفي، بطبيعته، يتحرى الحقيقة، ويجري التحقيقات، ويتواصل مع مصادره، في حين لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أداء هذه المهام بنفس الكفاءة أو الدقة.
ويُشدّد منتقدو الذكاء الاصطناعي على أن هذا الأخير لا يستطيع إنتاج نص متكامل ومُبدع يحمل نفحات من الفكر الإنساني، مما يُحتم ضرورة الاعتماد على العنصر البشري في جميع مراحل الإنتاج الصحفي والأدبي.
كما أن هناك خشية حقيقية من أن يؤدي استخدامه المفرط إلى تراجع القيمة الثقافية والفكرية، وخلق حالة من الكسل لدى الصحفي”.
حساسيّة الإنسان
من جانبه، أوضح الدكتور رشيد الحاج صالح أن العديد من الأدباء والإعلاميين يستخدمون الذكاء الاصطناعي اليوم في تحرير موادهم، لكن ليس بالضرورة بشكل يُلغي العنصر البشري، بل كمساعد أو أداة لتخفيف أعباء المراجعة والتحرير.
وقال في تصريحه لصحيفة الثورة: “بحكم عملي، أعلم أن هناك مؤسسات إعلامية تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في مهام تحريرية مثل صياغة العناوين، تنقيح النصوص، توليد ملخصات، اقتراح أساليب كتابة مختلفة، واستخلاص نتائج النصوص بسرعة”.
وأشار الحاج صالح إلى أنه قبل أسابيع قرأ عن صحيفة قامت بتجربة تحريرية كاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث تم إنتاج عدد من المواد التحريرية بالكامل بهذه التقنية، لكن مع إشراف بشري مباشر.
وأردف: “هناك مؤسسات وضعت إرشادات تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الثقافي، حيث يُسمح باستخدامه في إعداد الأفكاروالتصورات، وفي اجتماعات التحرير، وأداء المهام المساعدة، وتحسين مستوى النصوص، لكن يُشترط أن يُراجع المحتوى النهائي ويُحرر بواسطة الإنسان”.
وأضاف: “في تقديري، وبحسب التجارب التي اطلعت عليها، لا يمنح الذكاء الاصطناعي قيمة إبداعية واضحة للأعمال الأدبية أوالإعلامية، لأن قيمته محصورة في الأداء التقني والتحليلي، لا في البعد الجمالي أو الإبداعي”.
وأوضح أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحسين مستوى اللغة والأسلوب، وتوضيح الأفكار، وتحقيق الاتساق اللغوي، ومراجعة النصوص نحوياً وإملائياً، إلى جانب قدرته على التلخيص، التبويب، اقتراح تراكيب جديدة، إجراء إحصاءات، واقتراح عناوين جذابة، “لكن لا يتجاوز دوره ذلك”، حسب تعبيره.
ويرى الحاج صالح أن السبب يعود إلى أن الذكاء الاصطناعي أداة تحليلية، وليست مبدعة بالمعنى البشري.
أما الإبداع الأدبي أوالصحفي، فيتطلب حساسية إنسانية، وخبرة شخصية، وتجربة ذاتية، وعاطفة، ورمزية، ورؤية فردية، وهي عناصرلا يملكها الذكاء الاصطناعي.
وأكد أن هذه التقنية تُعد أداة لتعزيزالإنتاجية، وليست مصدراً أساسياً للإبداع، قائلاً: “يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعداً في إنتاج المسودات أو توليد الأفكار، لكنّه يحتاج دوماً إلى عقل الكاتب أو الصحفي ليمنحه المعنى والإبداع الحقيقي”.
ميزات ومخاوف
وشدد الحاج صالح على أن المحررين يمكن أن يستفيدوا من الذكاء الاصطناعي في عدة جوانب، أبرزها: زيادة الإنتاجية وتسريع العمل.
فالعمل التحريري الذي قد يستغرق ثلاث ساعات عادةً، يمكن إنجازه في ساعة واحدة أو أقل بمساعدة الذكاء الاصطناعي، إذ يستطيع هذا الأخير إنتاج مسودات أولية بسرعة، تلخيص النصوص، صياغة المواد المتكررة، أو تحريرالأخبار العاجلة، فضلاً عن تقليل الوقت اللازم للبحث، التنقيح، والتصحيح اللغوي.
كما أشارإلى أن من مزايا الذكاء الاصطناعي أيضاً تحسين جودة اللغة والأسلوب، وأن أدوات الترجمة الآلية والتحليل تساعد في إنتاج محتوى متعدد اللغات بسرعة وكفاءة.
وأضاف: “ميزة أخرى مهمة هي أنه يوفرأدواتاً للبحث في قواعد البيانات الضخمة، وتحليل الاتجاهات، ومقارنة المحتوى بين مصادر متعددة”.
ومع ذلك، يوضح الأكاديمي والباحث أن المخاوف تبقى قائمة، وعلى رأسها ضعف القيمة الإبداعية والإنسانية، لأن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك حسّاً إنسانياً، وبالتالي لا يمكنه نقل التجربة الإنسانية أو الإحساس الثقافي العميق.
ويتابع: “الاعتماد المفرط عليه قد يؤدي إلى نصوص مطابقة تقنياً، لكنّها تفتقر إلى الأصالة والإبداع”.
كما نبّه إلى أن بعض أدوات الذكاء الاصطناعي قد تولد معلومات غيردقيقة أو مضللة، ما لم يكن هناك تدقيق بشري صارم، وهو ما يشكّل تهديداً للثقة بالمحتوى الإعلامي.
وأشارأيضاً إلى أن تحيزات الخوارزميّات تُعد مشكلة حقيقية، إذ تعكس غالباً تحيّزات مطوّريها أو البيانات التي تدربت عليها، ما قد يؤدي إلى إنتاج محتوى غير متوازن ثقافياً أو منحاز سياسياً.