الملحق الثقافي- سلام الفاضل:
تتقاطع في الواقع العلوم الإنسانية والعالم الحقيقي في أكثر المناطق أهمية؛ ومن هنا يبرز الدور المحوري للعلوم الإنسانية التي نحتاج إليها بسبب أهميتها العملية في مساعدة صنّاع السياسة، والاقتصاديين على مواجهة القضايا التي تؤثر تأثيراً مباشراً في حرياتنا المدنية، ونواحٍ عدة من اقتصاداتنا الحديثة.
والكتاب الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن «المشروع الوطني للترجمة» تحت عنوان (لماذا نحتاج إلى العلوم الإنسانية؟!)، وهو من تأليف: دونالد دريكمان، وترجمة: زينة المعلوف، ومراجعة: د.باسل المسالمة، يسلط الضوء على الحاجة إلى العلوم الإنسانية عبر عرض نطاق واسع من القضايا الجدلية، بدءاً من مستقبل الطب ذي التكنولوجيا الحديثة، وصولاً إلى طبيعة الحرية الدينية، وغيرها من القضايا الأخرى بهدف الحصول على أجوبة عن أسئلة محددة تتعلق بالسياسة العامة، وطبيعة العلوم الإنسانية التي نحتاج إليها، والتي بإمكانها مساعدة صنّاع القرارات الحكومية في التوصل إلى أجوبة تعزز بالشكل الأمثل الصالح العام.
وفي رحلة البحث عن تلك الإجابات لم يلجأ مؤلف الكتاب إلى آلية تقليدية تتوقف بداية على تعريف العلوم الإنسانية، وتبيان الغرض منها، بل إنه سعى عوضاً عن ذلك إلى محاولة وصف سبب الحاجة إليها، ومن ثم البحث في المكان الذي يمكن أن تكمن حاجته فيه، مسخّّراًً في خدمة ذلك خلفيته الأكاديمية والمهنية المتنوعة على نحو غير اعتيادي، رغبةً منه في جلب بعض الأفكار الجديدة التي من شأنها أن تسهم في إعطاء نظرة أكثر شمولية حول الضرورة التي ما تزال العلوم الإنسانية تمثّلها في عالم اليوم. وقد أوضح المؤلف في مقدمته أنه قد قام بتأليف هذا الكتاب: «من أجل المشرّعين وصنّاع السياسة التعليمية، والقائمين والرؤساء الذين يقررون أين تُنفق موارد التعليم العالي المحدودة، والذين ركّزوا اهتمامهم بشكل متزايد على تعزيز مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. كما أنه يسعى إلى التحدّث مع العلماء وروّاد الأعمال في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات الذين قد يكونون، وبشكل متناقض من أكثر الخاسرين بسبب إضعاف العلوم الإنسانية. وأخيراً، إلى طلاب وعلماء العلوم الإنسانية الذين أشجع عملهم…».
محتوى الكتاب
يقع هذا الكتاب في خمسة فصول يناقش الأول منها السبب الذي يفرض على المجتمع أن ينفق الأموال مقابل شيء كالعلوم الإنسانية التي تبدو بعيدة عن الاقتصاد المعاصر ذي التكنولوجيا المتقدمة، ويطرح إجابة بسيطة في الجواب عن هذا السؤال تتمحور حول أن التطورات التكنولوجية الأكثر إثارة وأهمية اقتصادياً، فضلاً عن الاعتراف بكثير من حقوقنا وحرياتنا الأساسية تتطلب إسهامات مستمرة من الفلسفة والعلوم والسياسة والتاريخ والفروع الأخرى، التي كانت قد عالجت الأسئلة الأساسية بصورة تقليدية.
ويصف الفصل الثاني النظرة المنتشرة بصورة متزايدة للجامعات بوصفها محركات للابتكار، التي تحفّز اقتصادات الولايات المتحدة وكثير من دول أوروبا الغربية، كما يركّز بشكل خاص على الدور الجوهري للعلوم الإنسانية الذي تؤديه في النمو الاقتصادي الناتج عن أبحاث الطب الحيوي، الذي يشكل مصدراً لمعظم المنح الحكومية والشركات الفرعية ورسوم الترخيص في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
في حين يتجه الفصل الثالث إلى ساحة مختلفة تماماً، حيث يسلط الضوء على تلك المنطقة حيث أثّرت العلوم الإنسانية عميقاً في جودة الحياة المعاصرة، كما أنه يبحث بعناية في عمل القضاة، ومن يفسرون الدساتير، وغيرها من الوثائق الأساسية الخاصة بالمجتمع المدني، ويبتّون في حقوق المواطنين.
ويتحول الفصل الرابع نحو علماء العلوم الإنسانية الذين تشتد الحاجة إليهم، والذين قدموا دفاعات قوية عن مجالاتهم بالفعل، فالبنسبة إليهم ليست الفنون الليبرالية ذات قيمة جوهرية فحسب، بل إنها أساسية لتدريب المواطنين على القيام بواجباتهم في المجتمعات الديمقراطية؛ فالعلوم الإنسانية التي يقترحونها بإمكانها أن توجه الجميع في مجال الاحتمالية البشرية وعمقها.
ويناقش الفصل الخامس والأخير وجوب استعداد المجتمع لدعم أبحاث العلوم الإنسانية – داخل الأوساط الأكاديمية وخارجها – ليكون في وضع يسمح له بالحصول على التوجيه الذي يحتاج إليه لمعالجة قضايا السياسة لدى عامة الناس. ولدى القيام بذلك، على المجتمع الاعتراف أنه، كما هي الحال في المجالات الأخرى، يمكن للأبحاث أن تصبح مهمة بعد سنوات كثيرة من اكتمالها، مع الإشارة إلى ضرورة بحث علماء العلوم الإنسانية عن فرص للمشاركة بشكل أكثر انتظاماً وفعالية مع الجمهور لإلقاء الضوء على الأهمية المستمرة لعملهم.
وفي الختام يمكن القول بأن هذا الكتاب يشكل حجة حول الأهمية المحورية للعلوم الإنسانية، وحاجتنا المستمرة إليها خدمة لسياساتنا واقتصاداتنا، وفروع علمية أخرى.
العدد 1112 – 20- 9-2022