بعد مرور نحو عشرة أيام على تفجيرات خطي غاز نورد ستريم 1 و 2 اللذين يزودان أوروبا بالغاز الروسي بدأت تغيب التصريحات النارية للمسؤولين الأوروبيين حيال محاسبة المسؤولين عن تفجير خطوط الغاز التي تمثل شريان حياة ودفء للأوروبيين، فهل للأمرعلاقة بحقيقة أن الولايات المتحدة هي التي فجّرت الأنابيب؟
لماذا نتهم واشنطن؟ التفجير الذي تأكد أنه عمل تخريبي، جاء بعد تصريحات سابقة للرئيس الأميركي جو بايدن أعلن فيها رغبته في “التخلص” من خط أنابيب غاز نورد ستريم الذي يمدّ أوروبا بالغاز الروسي، إذ قال بايدن في تصريح نشرعلى نطاق واسع قبيل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا بأسابيع، إنه “لن يكون هناك نورد ستريم 2، سنضع حداً له، أعدكم بأننا نستطيع القيام بذلك”.
هل يوجد دليل أقوى من الاعتراف بالنوايا؟ فلا يمكن اعتبار كلام الرئيس الأميركي مجرد “تخريف”، بل هو تصريح يعبّر عن استراتيجية أميركية بدأت تتضح معالمها مع بداية الحرب الروسية- الغربية في أوكرانيا، وخصوصاً مع محاولات واشنطن المحمومة لخنق روسيا اقتصادياً عبر فرض عقوبات على مصادر الطاقة الروسية التي تشكّل مصدراً هاماً للعائدات بالنسبة لموسكو، ولا يمكن اعتبار التصريح منفصلاً عن التعليمات التي أصدرتها الإدارة الأميركية للقارة الأوروبية بضرورة التكيف مع حالة “لاغاز روسي بعد اليوم”، رغم اعتماد القارة على 40 بالمئة من حاجتها من الطاقة على روسيا.
المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، وجهت الاتهام المباشر للرئيس بايدن الذي هدد بنسف الخط، وكذلك فعل بعض الإعلام الأميركي ومنهم قناة فوكس نيوز التي أشارت صراحة إلى إمكانية تورط إدارة بايدن بتفجير نورد ستريم بعدما عبّرالرئيس علانية عن رغبته في التخلص من الأنبوب.
والدليل الآخر بأن واشنطن تقف وراء العملية، هو تسرعها لإلصاق التهمة بموسكو المتضرر الأول من التفجير، في محاولة من الإدارة الأميركية لتعميم روايتها عبر منافذ الإعلام العالمية التي تسيطر عليها بهدف تضييع معالم الرواية الحقيقية. وهذا ما حصل حيث بدأ الإعلام الغربي يتناول المسألة على أساس تبادل اتهامات بين روسيا والدول الغربية بوقوف كلّ طرف وراء التفجيرات بدل أن تكون اصبع الاتهام موجهة إلى واشنطن فقط.
في قاعدة المستفيد والخاسر من العملية، تعتبر موسكو المتضرر الأول من وقف إمدادات الغاز كعائدات، وتأتي بعدها أوروبا التي فقدت أهم مصادر الطاقة الرخيصة والتي تتواءم مع بنيتها التحتية، الأمر الذي سيعمق أزمة الطاقة فيها ويضطرها للبحث عن مصادر طاقة أخرى تزداد تكاليف شحنها ومواءمتها مع أنظمتها وبنيتها التحتية.
بالمقابل، فإن تتبع أثر المستفيد لا يقود لمكان سوى إلى واشنطن المتهم الأساسي في عملية التفجير هذه، فمن غير المعقول أن تساعد روسيا الناتو في خنقها اقتصادياً وهي التي حافظت على إمدادات الغاز إلى أوروبا باعتبارها من أهم مصادر عائدات القطع لموسكو، بالرغم من تحركها لتنويع أسواق تصدير الغاز وزيادة الضخ باتجاه الأسواق الأسيوية ولاسيما الصين والهند بعد الحرب الاقتصادية الغربية ضدها.
منفّذ التفجيرات يهدف إلى إخراج الأنابيب من الخدمة دفعة واحدة وإلى أجل غير معلوم، وهذا يعني أن على أوروبا أن تفكر كيف ستمضي الشتاء من دون الغاز الروسي وأن تبحث عن البديل الذي لن يكون سوى في الولايات المتحدة التي أعلنت أكثر من مرة استعدادها لتعويض أوروبا عن الغاز الروسي لكن بأسعار أعلى.
أنها مرحلة جديدة من الحرب الاقتصادية الموازية للحرب العسكرية في أوكرانيا، ولاشك أنها محاولة أميركية جديدة لمزيد من الضغط الاقتصادي على مصادر التمويل الروسية من جهة، وخطوة استباقية من جهة ثانية، لمنع الدول الأوروبية من مجرد التفكير “بشقّ عصا الطاعة” على التبعية الأميركية في أي مرحلة مقبلة من الصراع مع روسيا.
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين التي هددت بالرد على “الانتهاك المتعمد” للبنية التحتية للطاقة الأوروبية غابت عن الساحة بعد أيام من التفجير ولم يعد لديها الحماس لمعاقبة المسؤولين عن التفجير!! فهل تتجرأ هي أو أي مسؤول أوروبي آخر على توجيه الاتهام لواشنطن ؟