إن الثقافة ثقافات: ثقافة بيئية، وأخرى اجتماعية، وثالثة معرفية، وغيرها سياسية، والأهم من هذه الثقافات كلها هي الثقافة في مواجهة العدو، والهجمة الغربية على المنطقة كلها تحت شعار، أو اسم (صدام الحضارات) كما قال (هنتنغتون)، والذي نحاول أن نجعله حوار حضارات بدءاً من الحوار الديني لأنه أساس كل الثقافات التي ذكرتها، فعدم قطع شجرة مثلاً من قبل مهندس هي ثقافة بيئية مستقاة من ثقافة دينية، والبحث عن نظام مالي ليس أساسه الربا في الثقافة الاقتصادية فهو نظام مستقى من ثقافة دينية، وهكذا…
الثقافات المذكورة ليست ثقافات جديدة تماماً وإنما هي مستمدة أساساً من الواقع القائم، بمعنى أن الثقافة الاجتماعية مثلاً لا تعني طرح الحريات المطلقة للمجتمع في الاختلاط والزواج، وكل هذه الأمور كما هو مطبق في الغرب، بل استناداً، واستلهاماً مما هو قائم بنوع من التجديد، والتحديث، والنظرة المستقبلية لتقدمنا، وازدهارنا مع مراعاة ظروف كل بلد من البلاد العربية، وحتى بين القرية والمدينة اعترافاً بوجود ما يسمونه رأياً عاماً، أو ذوقاً عاماً، أو عُرفاً عامً.
وعن الشباب والجيل فقبل أن نمنحهم خططاً للمستقبل في كل هذه النواحي علينا أن نحصنهم من الغزو للحضارة الغربية الذي يتسلل إلينا من طرقٍ، وقنواتٍ لا يمكن حجبها في زمن الاتصالات، والمواصلات، فما عادت الأفلام فقط هي الخطر، أو المترجمات، والكتب، بل هناك شبكة الاتصالات، والمعلومات العنكبوتية المخيفة، وألعاب الفيديو، وغيرها.. وهذا التحصين لا يأتي عن طريق القمع، والمنع، والزجر، وحتى القوانين، بل عن طريق اقتناع الشباب بأن لهم حضارتهم الخاصة، وقيمهم الخاصة، وهم الذين يدافعون عنها عندما يقفون بوعي أمام هذه الغزوات الأجنبية، وليس أولها الغزو الثقافي، والفكري، والمعرفي، ولا آخرها الاجتياحات. ويتضمن ذلك أي هذا السد كل ما يكوّن الانتماء بما فيه اللغة العربية نفسها.
في الوطن العربي توجد إيديولوجيات زرعت نفسها منذ عقود، وليس من السهل اقتلاعها، لكن بالإمكان تحييدها، وإذا أمكن تطويرها، أو إعادة صياغتها. فالإيديولوجيات موجودة، والأشخاص هم الذين يحرفونها، وعلاقتنا ليس بالإيديولوجيا بحد ذاتها من يمين، أو يسار، أو غيره، وإنما بالبشر الذين يحملونها. وبالنسبة للشباب فنحن مسؤولون عن تكوينهم بشكل صحيح، وسليم، لأن فترة الطفولة، والمراهقة هي قصيرة في الوصول إلى عتبة الشباب.
أما الإعلام وهو مصدر من مصادر الثقافة فكلنا يعلم أنه لم يعد من الممكن السيطرة عليه إلا عن طريق جذب الجماهير إلى منابع للإعلام تتجنب الوعظ، والإرشاد، أو التنبيه إلى القوانين الصارمة، والعقوبات، لأن الحرية في الاتصالات في هذا الزمن هامة جداً، ويترك الاختيار فيها لمن يضع أصابعه على أزرار وسائل الاتصال حتى ولو كان في جهاز هاتف ذكي. وعلينا ألا نخاف من ردود الفعل لممارسة الحرية لأن الجماهير عموماً سوف تمارسها بإفراط في مرحلة أولى ثم تنحسر عنها تلقائياً، ومهمة الثقافة الاجتماعية تكمن في ضبط الأمور عن طريق الأسرة، والمدرسة، أو الجامعة، وكذلك النوادي، والجمعيات، وطرح بدائل لهذه الثقافة العائمة، والمنحرفة، ويستطيع الفرد أن يلمس نتائجها كأن نكافئ الصغار، والمراهقين مثلاً في الأنشطة الثقافية مكافآت معنوية، ومادية رمزية أيضاً، وحتى في الرياضة لأن هذا يحفزهم ويجذبهم للابتعاد عن الإعلام الخطأ، وهذا يساعد في الوقت نفسه على اكتشاف المواهب.
وفيما يخص الخطاب الثقافي فنحن لا نستطيع إلغاء لا المحلية، ولا الوطنية، ولا خصوصية كل شعب عربي في أوضاعة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية، الخ..، ومهمة الجهات الثقافية التأكيد على الثوابت لهذه الأمة كالتراث المشترك أولاً، واللغة العربية ثانياً لأن اللغة وعاء التفاهم.
إذا فالمهم في الوقت الحاضر تكوين الشخصية العربية التي حاولت الثقافة الغربية أن تخترقها، والفن عموماً من قنواتها للوصول إلى أي أحد، وألا يبقى التعليم مجرد حشو لمعلومات يمكن التقاطها بأسرع مما نتصور عن طريق شبكة المعلومات في حين أن المهم هو تكوين الشخصية، وتحويل الجامعات إلى منابر للحوار، والنقاش مهما كان الحوار عنيفاً، وقاسياً، فنحن لم نعد في عصر التنوير.
وكم من الأمراض التي يجب أن تعالج، ليس بالمنع فهو غير قابل للتحقيق في هذا الزمن لأن التيار قوي، وجارف. ومن ناحية الفن فنحن لم نطور في الفن، ويمكن ذلك بالعودة إلى منابعه في التراث، أو التجديد القائم على الدراسة العلمية، ولهذا سادت موجة الغناء الهابط، وما نعرفه على ساحة الفن، رغم وجود نماذج كان لها دور حقيقي في إرساء فن راقٍ مثل (الرحابنة)، وغيرهم.
والأهم من كل هذا وذاك هو وجود النموذج المثال الذي يدفع للاقتداء به في كل مجال.