الملحق الثقافي – د. ثائر زين الدين:
ربيع عام 1990، وكان الاتحاد السوفييتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، اتفقت نخبة من المعيدين السوريين في «معهد البوليتيكنك» في مدينة خاركوف؛ مدينة الصناعةِ والطلبة كما كانت تُسمّى، وهي المدينة الثانية في جمهوريّة أوكرانيا السوفيتيّة يومذاك، على زيارة شبه جزيرة القرم، وبالتحديد مدينة يالطا الجميلة، كنا خمسة أو ستة أفراد ممن أوشكوا أن ينهوا العمل على أطروحات الدكتوراه، في موضوعات مهمة وضروريّة للصناعة وللبحث العلمي كالآلات الهيدروليكيّة والأجهزة الهيدروهوائية، والعنفات البخاريّة والغازيّة، وآلات سباكة المعادن والتحكّم الآلي والأتمتة وما إلى ذلك… سحرنا جمال تلك البلاد؛ البحر والشواطئ وأماكن الاصطياف الرائعة رخيصة التكاليف، البشر الطيبون الذين يخفّون لمساعدتك وإرشادكِ ونجدتك إن لزم الأمر، ومن هؤلاء امرأة فاتنة نصحتنا بزيارة إحدى أشهر حدائق العالم التي تضمّ آلاف أنواع النباتات والأشجار والأزهار، المجلوبة من مختلف بقاع العالم، وقالت لنا إننا سنعثرُ على ما يذكرنا ببلادنا، وبالشام تحديداً… وعرضت أن تكون مُرشدتنا في الزيارة فوافقتُ أنا بلا تردّدٍ، وامتعضت زميلتانِ؛ المهم أن الحديقة النباتية التي دخلناها «بوتانيتشكي ساد»، كانت تحتاج ربما لأيام عدّة كي نرى نباتاتها كلّها؛ تلك النباتات التي وّثقَ القائمون على الحديقة موجوداتِها وفق تصنيف المملكةِ النباتيّة، ووضعوا معلوماتٍ كاملة بجوار كلِّ نبتةٍ أو حقلِ نباتٍ، تكون بمنزلة هويّة شخصيّة يوثَّقُ فيها الاسمُ العلميُّ للنبتة وتعريفٌ بها، والفصيلةُ والشعبةُ النباتيّةُ التي تنتمي إليها. كانت النباتات ساحرة، وتسرقك من نفسك، لكن مُرشدتنا قادتنا إلى «ما يذكرنا ببلادنا» كما أشارت؛ ومن ذلك مثلاً شجرة الأرز الرصينة الشامخة، التي أشارت اللافتة إلى أنها تنمو في جبال لبنان، ونباتات أخرى مختلفة؛ ثم هاهيذي كوكبة من الورود الجوريّة الخلّابة تتراءى لنا من بعيد، فنقتربُ من موضعها، ونقرأ عنها ونسعدُ أنها تدعى «الوردة الدمشقيّة»، وأشكر الإغريق في سرّي لأنهم أول من نقل هذه التسمية إلى الغرب؛ قبل أن يفعل ذلك الفرسان القادمون في الحملة الصليبيّة. تشرحُ لنا المُرشدة أن ألطف وأرق العطور تُصنعُ من هذه الوردة بعد أن تخضع لعمليّة معقدة من التقطير؛ وهنا يصيبُني من المشاعر ما أصاب عمر أبا ريشة مع الحسناء الإسبانيّة؛ وهي تفاخر بأجدادها العرب وتظنُّ صمته الحزين إقلالاً من شأنِ من تتحدّث عنهم، فتختم كلامها قائلةً:
هؤلاء الصيد قومي فانتسب إن تجد أكرم من قومي رجالا
وأشعر بما جال في خاطر أبي ريشة فأُطرِقُ كما فعل، وتغيمُ عيناي برؤاها واتجاهلُ الكلام كما حدث لأبي ريشة تماماً. أتذكَّرُ أن إنتاج الزيوت والعطور من الوردة الدمشقيّة حرفة تُراثيّة قديمة في الشام، وأن هذه الوردة نمت في بلادنا منذ آلاف السنين، وذكرتها مخطوطاتٌ عمرها ما لا يقل عن 3000 آلاف عام، وكان ابن سينا أول من اكتشف الفوائد والسمات العطريّة التي تنتج منها بالتقطير، وأن هذه الحرفة ازدهرت ذات يوم في بلادنا قبل أن تتقلّص المساحات المخصصة لزراعتها في غوطة دمشق والقلمون في قرى المراح والقسطل، وفي حلب وبعض مناطق السويداء وغيرها لأسباب كثيرة منها تقلّص الأرض الزراعيّة المخصصة للوردة بسبب المد العمراني الجارف غير المنظّم، وتراجع اهتمام الأبناء بهذه الحرفة، والرغبة في استثمار الأموال في حرف ومهن قد تكون مربحة أكثر وأسرع، فانتقلت إلى أوروبّا وبعض دول العالم بطرق مختلفة، واهتم بها الأوروبيّون واستخلصوا العطر منها وأدخلوه في تركيب عطور تُعدُّ الأروع في العالم، كنت أُفكّرُ في كلِّ ذلك، وأتمنى أن أرجع إلى دمشق لأرى أنَّ الاهتمام بهذه الوردة وحرفتها قد اشتد، وأنَّ مؤسسات رسميّة قد تبنت الأمر، وما انتبهت أن مرشدتنا الجميلة كانت قد أنهت حديثها عن الوردة الدمشقيّة، وتمنّت أن تقدر ذات يوم على رؤية هذه الوردة في مناطق نموِّها الأولى، وفي حدائق دمشق نفسها… سارعت زميلتانا إلى أخذ رقم هاتفها وعنوانها، ووعدتاها بدعوتها إلى الشام، خرجنا من الحديقة وشكرنا السيدة الروسيّة التي عرَّفتنا بأن اسمها أيضاً «روزا» أي «وردة»، فخمَّنا جميعاً أن اهتمامها بوردة دمشق، ما هو إلّا شكل من أشكال البحث عن الهويّةِ والذات بصورةٍ من الصور.
العدد 1116 – 18- 10-2022

السابق
التالي