تبدلت الخريطة السياسية للعالم مرات عديدة، فقد كانت الإمبراطوريات القديمة تحدد سلطتها وفق عمليات التوسع العسكري والحروب التي تخوضها ناشرة ثقافتها وقيمها متجاوزة عوامل الأعراق، الأمر الذي أنتج إمبراطوريات امتدت لآلاف الأميال طولاً وعرضاً لتشمل قارات العالم الثلاث القديمة، وذلك ما عرفته الإمبراطوريات الفارسية والإغريقية والرومانية والعربية الإسلامية، ولكن ظهور الدولة القومية في نهايات القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر جعل حدود الدول يتناقص بشكل كبير، وهو ما يمثل القاعدة الأساسية للخريطة السياسية للعالم الحديث وإن حصلت عليها تغييرات طفيفة.
فقد ترافقت التغيرات الأخيرة مع انهيار منظومة الدول الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي وانفصال جنوب السودان، إذ كانت تلك الحدود تعكس حالة الاصطفاف السياسي، وإن تباعدت بعض تلك الدول أحياناً، إلا أن الكتل الكبيرة كانت تحتل مساحات واسعة متقاربة تشكل أساساً لمجموعة واحدة، فكانت دول أوروبا الشرقية ملاصقة تماماً لأراضي الاتحاد السوفييتي، فيما دول أوروبا الغربية متجاورة وترتبط عبر المحيط الأطلسي بالولايات المتحدة الأميركية وكندا، بينما اليوم يقف العالم أمام متغيرات شديدة الخطورة تنذر بها مجريات الحرب الجارية في أوكرانيا، بما تمثل من صراع بين إرادتين كبيرتين لم تستطع المفاوضات تجاوز وقوعها، بل على العكس تماماً، فقد كانت سياسة الولايات المتحدة الأميركية تدفع باتجاه وقوعها في محاولة للحد من تطور الاتحاد الروسي ومنعه من امتلاك التكنولوجيا المتطورة والأسلحة القوية، ومنع قيام محور يلتزم ميثاق الأمم المتحدة، ويرفض الهيمنة الأميركية، ويدعو لقيام علاقات دبلوماسية واقتصادية قائمة على المصالح المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والوقوف في وجه الغطرسة الأميركية وتفرد واشنطن بفرض إرادتها على المجتمع الدولي ونهبها لثروات وخيرات الشعوب الفقيرة.
فواقع مجريات الحرب في أوكرانيا سيفرض متغيرات دولية لن تنجو منها دولة في العالم مهما بدت بعيدة عن بؤرة الصراع المباشر في أوروبا، فالعالم اليوم يقوم على تبادل احتياجاته فيما بين دوله، وهو ما يؤثر في الاستراتيجيات الدولية المختلفة، ففي الوقت التي ترغب فيه قوى الخير اعتماد سياسات التعاون والتوافق كروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، فإن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي يريدون العودة للحقبة الاستعمارية التي كانت فيها تلك الدول تسيطر على مقدرات وثروات شعوب الأرض وتستغلها وتقهر إرادتها، الأمر الذي يتمثل صراعاً متعدد المستويات على الساحة الدولية، ويتركز في أوكرانيا كمحدد مفصلي لصراع دولي شامل، وفيه لا أعتقد أن ثمة عاقلاً في العالم يتوقع الهزيمة العسكرية لروسيا في هذه المواجهة التي وصفتها موسكو بالعملية الخاصة، وهي تدرك وتعرف كل ما يحيط بها ويكتنفها من خبايا وأبعاد، فروسيا التي اضطرت للقيام بهذه العملية العسكرية الخاصة لن تخرج منها إلا منتصرة ومحققة للأهداف التي أعلنتها قبل الشروع بها، وهي تمتلك كل أسباب النصر المطلوبة، وما التأخير في الحسم إلا خطة لتحقيق الهدف الأبعد خارج حدود أوكرانيا والتأثير في مواقف الحكومات التي تدعم التمدد النازي في أوكرانيا، وبالتالي سيكون هناك تغييرات في الجغرافيا السياسية للعالم تستجيب للنتائج النهائية للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي سيكون لشتاء أوروبا العامل المساعد في حسم نهايتها.